16 ألف كارثة جديدة!

ليت القراء الكرام يقضون بعض الوقت في مشاهدة شريط “أستاذ بجرّة مِمحاةٍ” أو “كيف تصير أستاذا في 8 دقائق؟” على الرابط الآتي، مع الاعتذار لعدم وجود ترجمة عربية له مقابل عشرات ألوف ترجمات المسلسلات التركية والهندية والكورية المتاحة!

فإن ذلك سيختصر طول طريق هذا المقال، بوضعه القارئَ مباشرة في عين الإعصار الذي يبدو أن تعليمنا العمومي متجه إليه – معذرة – بل مُوَجَّهٌ إليه بسرعة جنونية، إن دلّت على شيء فإنما تدل على سفه هؤلاء المجانين الذين يزيدون في السرعة كلما نصحهم الناصحون بالتعقل قليلا! وبالمناسبة، فإذا كان الله تعالى ينهانا عن أن نؤتي السفهاء أموالنا التي (جعلَ اللهُ لكمْ قِيَمًا)، فإن النهي – بالقياس – عن إيتائهم تعليمنا الذي هو قيمةُ القِيم، أولى وآكد. وبما أنه لا سُلطان للقرآن باعتباره كلاما إلا على ذوي الإيمان، فإن هؤلاء السفهاء سيظلون صُمًّا عن كل كلام، ما داموا لم يَروا – منذ الاستقلال –  واحدا منهم حوكِم أو حوسبَ وهو واقف خلف القضبان، باعتباره “مجرم تعليم”؛ فلِمَ لا يسرحون ويمرحون في أولادنا وأجيال مستقبلنا متبعين أهواءهم بلا حسيب ولا رقيب؟

أقول لمن لا وقت له لمشاهدة البرنامج باختصار: إنه عمل صحفي جريء فاضح للعبث الذي وصلت إليه سياسة الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي التعليمية في ما يخص “التعاقد” مع أساتذة لسدّ الخصاص. العبث الذي وصل إلى درجة قبول أستاذ لتدريس الرياضيات مع أنه لم يجب بصواب إلا عن سؤال واحد من ضمن الأسئلة الستة التي وجهها إليه “المفتش” المكلّف من الأكاديمية بإجراء مباراة التوظيف معه! ليصير “الأستاذ” في نهاية المطاف مجرد شرطي في القسم، كل رِهانه ضبط التلاميذ فيه، حتى لا يقال إنهم لا “يدرسون” المادة الفلانية، أو إن المؤسسة الفلانية عاجزة عن توفير الأطر… لا شكّ عندي في أنه لو فكّر صحفي لدينا في القيام بالتحقيق نفسه، مزوّدا بكاميرا خفية، لأصبح مطلوبا للعدالة، بدل أن يُطلب الوزيرُ للمساءلة! تماما كما طلبت الداخلية يومًا “قناص تاركيست”، لا لشيء إلا لأنه قدّم خدمة وطنية من الطراز الرفيع حين كشف بكاميرته الخفية عن دركيِين مرتشِين!!

الآن الأمر في قطاع التعليم أكثر وضوحا من الشمس في رابعة النهار، ولا يحتاج إلى كاميرات خفية: توظيف جيش من “الأساتذة المتعاقدين” توظيفا مباشرا، بلا تكوين، ولا شهادة تأهيل، والزج بهم إلى الأقسام مباشرة، مع تجميد التكوين الأساس في المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وتعطيل كفاءاتها بالرغم منها، مما جعلها تصاب بشلل شبه تام، في حين كانت السنة الماضية في مثل هذا الوقت كخليّة النحل الطنانة، تغلي على وقع إضراب  عشرة آلاف 10000 أستاذ متدرب، لم يكونوا يطالبون – يا للمفارقة! – إلا بالتوظيف بعد التكوين!! وها نحن أولاء اليوم أمام 11 ألف أستاذ تعاقدت معهم الأكاديميات للتدريس مباشرة، ولو دون ترسيم، لعاميْن، مقابل “رسوب” أو “ترسيب” 150 من هؤلاء الذين خضعوا لتكوين – ولو كان مكثفا في ثلاثة أشهر ونصف – ثم استوفوا كافة مصوغاته، بما فيها مصوغتا إنجاز البحث والتداريب العملية!

أبعد هذا الجنون جنون؟ أجل بعده جنون آخر أصبح في حُكم المؤكّد؛ فبعد أن تجندت أبواق الدعاية الكاذبة من صحافة وإدارة لترويج خبر مُسكّنٍ منذ شهر غشت الماضي، مفاده أن الوزارة “ستعلن عن مباراة الولوج إلى المراكز الجهوية في غضون الأسبوع المقبل”، ها هو الآن العام التكويني على وشك الانقضاء، بلا مباراة ولوج، ولا تكوين أساس، وها هو الخبر الصاعق من جديد يتسرب رويدا رويدا من الإعلام ومن عديمي الضمائر ممن لا يجدون حرجا في تكذيب أنفسهم، ولو بعد حين. يتعلق الأمر بتوظيف دفعة جديدة قوامها جيش “غير نظامي” آخر، عِدّتُه 16 ألف أستاذ متعاقد!! سيدخلون الأقسام كذلك من “أبوابها الواسعة”، ولا زاد لهم من تكوين، “ولا هم يحزنون”، ولا يضحكون كذلك، ولكنها وضعية الدهشان الفاغر فاهُ الذي يترقب أمرا ما غير سارٍّ، وهو بين الضحك البكاء!

لنكن واضحين أكثر في تفصيل مشاهد الجريمة مشهدا مشهدا: الخصاص المُهول في أطر التدريس كان معروفا منذ سنين، لدى العامة قبل الخاصة، فأحرى لدى الوزارة. عدد الذين سيحالون على التقاعد هذا العام ممن مُدّدت أصلا سنة تدريسهم العام الماضي كان هو كذلك معروفا لدى الوزارة. طلبات الذين سيستفيدون من حقهم في التقاعد النسبي تعبّأ بشكل روتيني في وقت مبكّر من السنة الدراسية، مما يعني أن أعداد أصحابها كانت معروفة كذلك. فجأة ستستفيق الوزارة على الاكتظاظ الرهيب في بداية هذه السنة، وستتدخل بشكل “استعجالي” كعادة حليمة في “استعجالها” القديمة، لتتفتق “عبقرية” “مسؤوليها” عن فكرة إقحام جيش بلا عُدة ولا عتادٍ في معركةٍ… حتما ستكون خاسرة. في الوقت نفسه يعشش العنكبوت في مراكز التكوين، ولولا بضعة أقسام ضمن مسلك الإدارة التربوية وبعض الاجتماعات الروتينية هنا وهناك لعشش فيها البوم أيضا! هذا، مع كون إمكانية استفادة هؤلاء الـ11 ألف متعاقد من تكوين مُركَّز بين شتنبر ودجنبر الماضيين في تلك المراكز على الرحب والسعة، لو أنه – في أسوإ احتمالات الاستعجال التي فيها شيء من اضطراب “التخطيط” – نفضت الوزارة أيديها من مباريات توظيفهم في الصيف! ونفس هذا السيناريو سيكرر العام المقبل أيضا: ها هي ذي المراكز خاوية على عروشها، بينما “تعدّ” الوزارة – وأي إعداد ذاك؟! – لتوظيف 16 ألف متعاقد بلا أدنى زاد من التكوين مرة أخرى!! مع العلم أنه كان بالإمكان استفادتهم في هذا العام “الأبيض” من تكوين يؤهلهم لإنجاز أشرف المهن على وجه الأرض بطريقة تتوفر فيها على الأقل الحدود الدنيا من المواصفات البيداغوجية المطلوبة في “الأستاذ”، تماما كالمواصفات العسكرية الدنيا التي ينبغي أن تتوفر في الجندي العادي، ممن لا يمكن أن تستأمن من لا تتوفر فيه على أمن ذُبابة، فأحرى أن تستأمنه على البلاد أو العباد.

وما ذا بعد؟ لأقرَّ للوزارة أنها وهي تُقحم ذلك الجيش غير النظامي في مؤسسات التعليم مباشرة وضعت تصوّرًا مبتكرا لمصاحبته ميدانيا وعن بُعد، وإن كانت لم تخصص إلا أياما معدودات لـ”التكوين” الحضوري، ولم تقترح له – وهو ذو خصوصية واضحة – شِقَّ كلمة، فعمد مديرو المراكز إلى توزيع “نتف” من مصوغات قديمة بعضها يعود إلى ثماني سنوات خلت، ولا تناسب البتة الفئةَ المستهدفة، ليُطلب من الأساتذة المكونين تعديلها وتكييفها مع فئة الأساتذة المتعاقدين – وكأنهم مجرّد أدوات للتنفيذ الأعمى والترقيع – لـ”تكوينهم” خلال خلال تلك الأيام المعدودات المبرمجة في العطل ونهاية السنة، والتي سمَّتها “تكوينا مستمرا”، وكأنهم تكوّنوا من قبلُ، فهذا “التكوين” مجرّدُ استمرار لما حصّلوه، ذرًّا لرماد المصطلحات الطنانة في عيون الشعب المسكين الذي يرسل يوميا أزيد من 6 ملايين من أولاده إلى المدرسة العمومية التي أكاد أقسم أن لا أحد من أولاء المسؤولين يعرف عن مكابداتهم فيها مليغراما واحدا، ما دام أولادهم هنالك في باريس والكِبك على أرائك المعاهد الخاصة متكئين!

أخيرا، إن الأساتذة المتعاقدين لا يتجملون أدنى مسؤولية في ما يتداوله الآباء المتعلمون بينهم مُغضَبين مزمجرين، حول ما يرتكبونه من أخطاء علمية أو تربوية في حق أفلاذ أكبادهم، ما داموا كانوا مستعدّين تمام الاستعداد للتكوّن في مراكز التكوين، وتحصيل تأهيل مهني ممهنِن، ودعم علمي تخصص – بمن فيهم ألفان 2000 كانت لديهم خبرة تربوية راكموها في قطاع لاالتعليم الخصوصي – يساعدهم في أداء مهمتهم على بصيرة. أمَا وإنّ الدولة ممثَّلَة في هيئة الوزارة الوصية قد أرادتْ لهمْ عُنوة مسارا آخر، دون أن تستشير أحدا على الإطلاق، فإنها هي التي تتحمل كافة العواقب والصوائر والمسؤوليات المادية والأخلاقية لهذه الجريمة التي دسَّ على إثرها رئيس الحكومة ووزير “تربيته” وجهيْهِما دسًّا غريبا عن توضيح حيثياتها للمغاربة، والتي لا شك أن التعليم الخصوصي سيجنى من وراء آثارها السلبية المرتقبة ما خبّأه وهو يحتج على “هروب” ألفي شاب وشابة من جحيمه الاضطراري نافذين بجلودهم مما ينتظر المغاربة من ابتزاز لجيوبهم المصفِّرة إنْ – لا سمحَ الله! – استمر هذا الجنون!

* إشارة: سبق لكاتب هذا المقال أن راسل الوزير مباشرة عبر رسالة مفتوحة نشرتها بعض الصحف الوطنية والمواقع الإلكترونية بخصوص توظيف 11 ألف متعاقد مباشرة، وتعطيل المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين. وبدل استدراك الوزارة لذيْنك الخطأين الفادحين، سلّطتْ كلابُ صيدهم الوفية عليه جِراءها لتنهش عِرضه – وهو بحمد الله سالمٌ لم يُثلمِ – زورا وبهتانا.

 

شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني