مدينة المتلاشيات

ـ نورالدين الطويليع
ربما تحولت يتيمة المدائن في غفلة منا جميعا إلى مطرح للمتلاشيات، فحيثما يممت وجهك وأنت تتجول في شوارعها وأزقتها البئيسة تنتصب أمامك تجهيزات محنطة استنفذت صلاحيتها، ووقعوا لها شهادة الوفاة في موطنها الأصلي، قبل أن ينقلوا رفاتها إلى مقبرة اليتيمة، عفوا مدينة اليوسفية إن صح التعبير، بعد إدخال بعض التعديلات الصباغية عليها لتوهم الناظر إليها أنها على قيد الحياة، وما هي كذلك.
في إطار الحديث عن المتلاشيات والتلاشي، وفي إطار تتبع المقاربة المتلاشية التي تستمد منطلقاتها من تصور ترقيعي يعتمد أسلوب الدفن والإقبار والتهافت الغريب على كل ما لفظ أنفاسه، واختيار ثرى المدينة المنكوبة ليكون مثواه الأخير، يستوقفنا مشروع الإنارة الأعرج الذي هلل له السيد العامل وكبر وحوقل، ومَنَّ علينا بأنه أخرجنا به من سجن البداوة، هذا المشروع الذي لا ندري من أين استقدمت أعمدته الحديدية التي أكل عليها الدهر وشرب، ثم تبول عليها، وإن كنا نعلم أن سومة الواحد منها بلغت عشرة آلاف وألفين وخمسمئة درهم، وأنها بنات عَمٍّ ليست من فصيلة واحدة، وتختلف ملامح الواحد منها عن الآخر، وإن حاولوا أن يوجدوا بينها بعض الشبه بالطلاء الأخضر، لون الأضرحة، لأنهم واعون بأنهم يؤثثون الضريح الأكبر، ضريح اليتيمة المسكينة طيب الله ثراها.
إلى جانب الأعمدة الكهربائية ترقد بهذا الضريح الإشارات المرورية الضوئية المربوطة بأسلاك صدئة تقول لنا بأن حبل تنمية المدينة صدئ واهن، لن تجني منه اليتيمة غير الصَّدَإ، إشارات يتوقف نبضها بالمرة أحيانا، ويشتعل مرة واحدة بألوانه الثلاثة أحيانا أخرى، كمؤشر على واقع اليتيمة التي تعاني من ثنائية ضدية تبعث على الاستغراب، حيث نجد الحركة والتوقف، والدينامية والجمود، والحظر والحرية المطلقة، نجد واقعا يخاطب أفرادَ وعناصرَ الفئة المحظوظة أن ادخلوا يتيمة المدائن آمنين مطمئين، ويقول للسواد الأعظم لن تدخلوها حتى يلج الجمل في سم الخياط (ثقب الإبرة)، يعطي للفئة الأولى الضوء الأخضر لتصول وتجول وتفعل ما تشاء بتدبير عبثي تخبطي عشوائي، لا تجد من يقول لها، وهي سادرة فيما هي فيه، أن توقفي، ولا تصادف في طريقها ضوءا أحمر ينبهها إلى خروجها عن طريق الصواب التدبيري، في حين توضع كل المتاريس والحواجز والأضواء والخطوط الحمراء في وجه الفئة الثانية التي لا حق لها في أن تنال نصيبها من حقوق كفلها الدستور، ولا حق لها أن ترفع عقيرتها لتقول للجناة “اللهم إن هذا منكر”.
وحتى تكتمل الحكاية، حكاية التلاشي والمتلاشيات زودوا الضريح بنافورة مليارية تعطلت تجهيزاتها في بضعة شهور، وتحولت إلى بركة آسنة تسكنها الحشرات المتعددة الجنسية التي تخاطبنا جميعا أن ادخلوا مساكنكم والزموا بيوتكم، واتركوا قبر اليتيمة جانبا حتى لا يمسكم طائف من عذاب اللدغ واللسع، وعذاب استنشاق هواء ملوث برائحة البرك المزكمة للأنوف، الباعثة على التقيؤ والغثيان.
لا ننسى كذلك في هذا الإطار المشاريع البوندكوموندية التي تُجْلَبُ من خلالها تجهيزات مكانها الأصلي هو المزبلة، عفوا يتيمة المدائن، التي أستسمح قرائي الكرام في أن أصفها بالمزبلة الكبرى لما يضمه ثراها من قمامة مشاريعية وتدبيرية، ومن منتخبين تراهم سكارى وما هم بسكارى، وتحسبهم أيقاظا وهم رقود.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني