أطروحة “ممارسة الملك للسلطة” للدكتور الإدريسي

ناقش الطالب محمد الإدريسي، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال الرباط، مؤخرا، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، تخصص القانون العام.
وقد اختار الطالب الإدريسي لأطروحته في دكتوراه الحقوق عنوان “ممارسة الملك محمد السادس للسلطة” وذلك يوم 25 أبريل 2015 بالمدرج 1 بكلية الحقوق الرباط اكدال.

وقد تزامنت مناقشة هذا الموضوع الذي استغرق في إنجازه مايفوق اثني عشرة سنة، مع مرور أكثر من عقد ونصف العقد على تولي الملك محمد السادس مقاليد السلطة.حيث تعد المؤسسة الملكيةفي المغرب ثابت كبير وضامن للاستقرار، باعتبارها ثاني ملكيات العالم الحالي من حيث القدم بعد الإمبراطورية اليابانية. وفق استمرارية تاريخية متميزة تؤدي فيهاشخصية الملك محمد السادس دورا مركزيا داخل النسق السياسي.
وتنبع أهمية الموضوع ودافع اختياره،من المكانة المركزية التي تحضى بها المؤسسة الملكية داخل الهيكلة الدستورية والسياسية، إضافة إلى كون الدراسات التي تناولت هذه المؤسسة وأساليب اشتغالها، ظلت في مقارباتها غير كافية، مع ما يصاحبها منتقصير ورقابة ذاتية تطال الباحث إن تجرأ على دراسة مثل هكذا مواضيع.
ودراسة الممارسة الملكية للسلطة في عهد الملك محمد السادس انطلقت من السياق الذي وجدت فيه، والمتسم بالصعوبة وتنامي التطرف، حيث اختار المغرب غمار توطيد النهج الإصلاحي المنفتح، أمام تحديات العولمةوتنامي دور الإعلاموحقوق الإنسان.
أما في ما يخص منهجية إنجاز الدراسة، فإنها انطلقت من تاريخ تولي الملك محمد السادس مقاليد السلطة في يوليوز 1999، كما أنها مستوحاة من مقاربة قانونية تجعل أحكام الدستور والقوانين،ثم الخطب الملكية المؤطرة لفضاءات الحياة العامة، مصدرا أساسيا في موضوع البحث، إضافة إلى مقاربة سوسيولوجية وسياسية، بحكم أن وراء كل قاعدة دستورية، خلفية سياسية تحكمت أو على الأقل كانت حاضرة في ذهن السلطة التأسيسية.إضافة إلى مراعاة شروط الحياد والموضوعية، وانسجام المقدمات والنتائج، وتفادي السقوط في محذور التكرار والاجترار، مع اعتماد الأرقام والإحصائيات والبيانات والنسب، لأنها منهج علمي ذو مصداقية في دراسة حقيقة المجتمع.
وفيما يخص صعوبات البحث، فقدارتبطت بالمؤسسة الملكيةالتي تعتبر ذات طبيعة خصوصية،لارتباطها بشخصية وسلوكات الملك الحاكم، أي بمفهوم السيادة و متطلبات (السرية)، لذلك ومنذ البداية كان إدراك أن الإقدام على هذه الخطوة لن يكون بالأمر السهل، بحكم تعذر الحصول على المعلومات اللازمة.
كما انطلقتمكونات البناء النظري لهذه الأطروحة، من محاولة الإجابةعلى الإشكالية التالية: هل شكل انتقال السلطة إلى الملك محمد السادس نقطة انعطاف في النسق السياسيمن خلال التوجهات المعلنةوالخطواتالممارسة على أرض الواقع؟
لذلك، فإن مقاربة التوجهات الفكرية للملك باعتباره يمثل هرم السلطة، قادت إلى ضرورة الإجابة عن سؤال من هو الملك محمد السادس؟ من خلال توصيف شخصيته،تنشئته، تربيته، ثقافته، مرجعيته الفكرية، نوازعه النفسية والاجتماعية،باعتباره شخصية رمزية عامةتوجد في قلب الانشغال السياسي وتتحمل مسؤولية تسيير دواليب الحكمورسم السياسات.
وانطلاقا من كون الخطاب يعبر عن شخصية الخطيب وتوجهاته الفكرية، فإن الملك يعتبر صاحب الأفكار المؤطرة للحياة الدستورية و السياسية، حيثتعد الخطابات التي اعتاد توجيهها أرضية هامة في إبراز توجهات الحكم، وذلك من خلال:
 ما تحمله من مشاريع وبرامج.
 التركيز والوضوح والدقة الزمنية.
 البعد عن الأصواتالثقيلة المتنافرة، وانتقاء أصوات سهلة متآلفة.
 غلبة المقاطع القصيرة على المقاطع الطويلة، مما يكون له أثر في إحداث دوي صوتي معبر، يجذب المتلقي إلى الخطاب.
 الاستعانة بمؤثرات صوتية كالنبر والتنغيم،لإبراز التعابير المهمة,
 تسلحها بنبرة نقدية مباشرة،تجسدها حدة صوت الإلقاء،بل كانت في بعض فقراتها تنوب عن المجتمع في انتقاد رتابة الأوضاع.
 تضمينها مفاهيم مركزية جديدة،من قبيل: “مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي””التضامن” “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” “التنمية المستدامة” “المشاريع المندمجة” “إشراك المواطنين” …
كماعرف المغرب منذ الاستقلال إلى اليوم ستة دساتيرمتعاقبة،بمعدل دستور لكل تسع سنوات، وهو متوسط له دلالته من الناحيتين الدستورية والسياسية كاستجابة طبيعية لتطور النظام السياسي، فالملك محمد السادس بإجرائه لأول مراجعة دستورية في عهده مجسدة في دستور 2011، قوى بتبصر مكانة عرشه من ملكية موسعة إلى ملكية متقدمة، تتجمع لديها شرعيات متعددة، تستلهمها من:
 عمق تاريخي، باعتبارها إحدى مقومات الكيان المغربي، حولها يتجمع المغاربة الذين اختاروها كنظام للحكم، حسما للخلاف والتنازع.
 عمق ديني، حيث يعتبر الملك أمير المؤمنين سليل أسرة تمتد إلى الفرع النبوي الشريف، مؤتمن على الجانب الروحي والعقائدي في حياة المغاربة طبقا للبيعة.
 عمق دستوري حافظت من خلالهالمؤسسة الملكية على سموها وعلوها في ممارسة الاختصاصات والصلاحيات، فهي لاتقبل تصنيفها تشريعية ولا تنفيذية ولا قضائية بل هي هذه السلط مجتمعة،حاضرة في كافة المجالات،وفق نسق تماثلي صار يشتمل إمارة المؤمنين بالنسبة للديني والملك الدستوري بالنسبة للسياسي(الفصلين 41 و42 من الدستور )،ومع ذلك فلا وجود للفصل بين السياسة والدين على مستوى أمير المؤمنين الذي يعتبر مرجعا فعليا، لكن هذا لايعني عدموجود وعي بضرورة رسم حدود بينهما، بالقدر نفسه الذي يكونان معا في خدمة الدولة ووحدة الأمة،من خلال ممارسة الملكلسلطات تنفيذيةوتشريعيةوقضائيةإضافة إلى احتفاظه بصلاحيات عسكرية وأمنية.
والملك في تدبيره للشأن العام يعتمد على قنوات لتصريفممارسته للسلطة،تتجسد مهامها في تدبير العديد من القرارات الهامة والإحاطة بجميع تفاصيلها، حيث تقتضي استمرارية حكم المؤسسة الملكية من الخلف وضع رجال أكثر ولاء له، في إطار عمليةاستخلاف النخب السابقة، مع إحداث تغييرات عميقة على مستوى الشخصياتالمسيرة لأجهزة الدولة لتنسجم مع التوجهات الملكية.حيث يعطي الملك نموذجا سلوكيا لا يكتفي بالتنظير لنوع جديد من السلطة، بل يمارسها ليقتدي به دونه، يدون قناعاته بأفعال ملموسة واقعيا،يبني، يدشن، يعطي انطلاقة مشاريع متعددة، من خلال تخصيص مساحة زمنية مهمة لتنقلاته عبر أرجاء البلاد، حيث تصبح الزيارات الملكية أداة تواصلية ومناسبة للمبايعة من قبل “الأمة” أثناء خروجها لاستقبال الملك على جنبات الطرق ومواقع التدشين،حيث يظهر الملك في كل منطقة بلباس أهلها، تأكيدا على مغربية كافة المناطق، وإظهار تواجدها في صلب الاهتمام الملكي.قاطعا البلاد طولا وعرضا، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، مستجمعا أجزاء الصورة الواقعية عبر المشاهدة العينية المباشرة على الطبيعة، وليس الصورة المرفوعة عبر التقارير الرسمية،إلى درجة جعلت المواطن يلمس بوضوح هذا التوجه القائم علىترسيخ صورة ملك القرب الميداني،والانتفاض على أعراف الارتخاء والبطء في الإنجاز.
 حضورلافت للملك رمزيا وفعليا من منظور تفاعلي أفقيا وعموديا،(وهنا يمكن على سبيل المثال استحضار الصور الملتقطة للملك مع مغاربة أرض الوطن وبلدان المهجر، لكونها تعبر عن “شرعية وطنية”، بحكم أن القوة التواصلية للصور الملكية تكمن في أنها تخاطب عقول وقلوب كافة المغاربة الصغير والكبير، المتعلم والأمي، وتكسر حاجز اللهجات والانتماءات الدينية والجغرافية)
وفي هذا الإطار، قام الملك محمد السادس في مرحلة اتسمت بالهدوء والصمت، بتوطيد الوضعية الداخلية من خلال إصلاحات عديدة همت:
– المجال السياسي، الذي شكلت عقلنتهأحد أبرز اهتمامات الملك، قصد ولوج المجتمعات الحديثة، التي تحمي الديمقراطية بالديمقراطية، وحقوق الإنسان بحقوق الإنسان، والقانون بالقانون، وتعزيز موقع المرأة في المجتمع، ثم الانفتاح السياسي البادية ملامحه في تصفية ملفات خروقات الماضي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فكانت هيئة الإنصاف والمصالحة، وإقامة جلسات الاستماع إلى الضحايا، وإصدار قرارات التعويض المادي، وتوسيع مجال الحريات وفضاءات التعبير العمومي، بشكل جعل الوضع في المغرب متقدم على بلدان عربية. إضافة إلى التأصيل الدستوري لمجموعة من الحقوق ومأسسة إعمالها.
– المجال الاقتصادي، شهدت مناطق المملكة تحولات عميقة، في أفق موازنة إعداد التراب الوطني، عبر تزويده بأقطاب اقتصادية وبنيات تحتية، تحت إشراف ومواكبة مستمرة من طرف الملك،بغرض جذب أكبر قدر من الاستثمارات الخارجية، بما يعطي دفعة قوية لنمو اقتصادي منتج للثروات وفرص الشغل،يساعد في معالجة الإكراهات الاجتماعية، وبالتالي تمكين النظام السياسي من تدعيم أسس شرعيته.
– المجال الاجتماعي، المجهودات المبذولة في هذا المستوى يعكسها تحرك ممنهج للملك وفق تصورات واقعية، تتمثل في القرب والإشراف والمتابعة، وأيضا في الانتقال من العاصمة كفضاء للحكم إلى المغرب العميق، بهدف توسيع الفئات المستفيدة من التنمية،حيث تمت بلورة مبادرة اجتماعية تروم تكريس مجتمع متضامن عرفت باسم “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”، كآلية تهدف إلى إيجاد حل لمعضلة الفقر، الذي من شأنه تقوية الإحساس بالحرمان الاقتصادي والاجتماعي وتهديد الاستقرار السياسي، إضافة إلى التدبير الجيد للشأن العام، القائم على مركزية الإنسان باعتباره جوهر عملية تنمية الناس بالناس وللناس.
– المجال الديني، يعطي للملك حق الإشراف المباشر على المؤسسات الدينية،ففي مقابل خطورة استغلال الدين لخلق زعامات كاريزمية يكون لها ولاء وطاعة عمياء، وسحب توظيفه في الفضاء السياسي من طرفالحركات الدينية المتشددة،حرص الملك على جعل إمارة المؤمنين مرجعية مركزية ووحيدة تتكفل بالمجال الديني وتحصنه من نزعات التطرف والعنف، وفق ما يعتبر خصوصية مغربية،في سياق سياسي بات فيه جميع الفرقاء يسلمون بشرعية النظام الملكي ويطرحون البدائل من داخله لاخارجه، وفق سياسة قادرة على الاستجابة لهدفين مهمين: عدم تعريض الشرعية الدينية للمؤسسة الملكية للتشويش من جهة، والمساهمة العملية من أجل إسلام منفتحمعتدل ومنسجم مع الخيارات الديمقراطية للبلاد.
وبطبيعة الحال، فإن هذه التدابير يلاحظ فيها الجرأة والسرعةوحضور اللمسات الملكية كما وكيفا، حيث يستند الملك في ممارسته للسلطة على مرتكز سياسي يتمثل في القدرة على الإنجاز والاشتغال في الميدان على مدار السنة، بغرض تنمية البشر وعمران الحجر،في زمن تطرح فيه شرعية الأنظمة لضمان دوامها، وفي هذا الاطار،يمكن التمييز بين نوعين من الشرعية: “شرعية سابقة” و”شرعية لاحقة”، والشرعية الثانية في نظر الملك أقوى من الشرعية الأولى، فالشرعية اللاحقة المجسدة في القدرة على الإنجاز، بدأت تتشكل معالمها بوصول الملك محمد السادس إلى الحكم، وبدأت معها الخطب الملكية تستخدم مفردات سياسية تصب في خانة الإعلاء من شرعية الإنجاز والفعالية، التي أضحت عنوانا مميزا لجميع المبادرات الملكية المتسمة بالخصائص التالية:
 تدبير إصلاحات شمولية متعددة ومترابطة.
 الاختيار الدقيق للقيام بالإصلاحاتفي وقتها المناسب.
 انفتاح الممارسة الملكية وتعاطيها الفعلي مع مختلف مكونات المجتمع.
 الاستباقية في الطرح والمراهنة على المنجز بدل الخطب والشعارات، حيث يجيد الملك حسن التواصل والاستماع، ويريد للأفكار أن تجد طريقها للتطبيق.
هذا التوجه ساهم في إنزال برامج تنموية،استطاعتمن خلالها المؤسسة الملكية وبذكاء، الاستثمار في الحقل الاجتماعيوبالتالي إعطاء نفس جديد لشرعية التواجد والاستمرارية القائمة على الاستجابة لمطالب المواطنين على نحو يحقق الفعالية والكفاية.بحكم أن جوهر نظرية الحكم حاليا مبني على شرعية الإنجازLa Légitimité de Perfectionnement,.
وفي الختام،فإن المؤسسة الملكية تدين باستمراريتها إلى قدرتها ومهارتهاعلى مستويات الفعل والعمل. فبفضل تميز الملك بقدرة فائقة في التحليل والاستباقية، استطاع المغرب التكيف بطريقة واقعية مع الحراك الذي شهدته المنطقة العربية سنة 2011، مشكلا بذلك الاستثناءً،لذلك ومهما كانت الصعوبات والعقبات، فإن تجاوزها لايحتاج ثورة عارمة وهدما للنظام القائم، بقدر ما يحتاج إلى مشاركة شعبية فاعلة”، سيما و المغاربة لديهم قناعة راسخة بأن المؤسسة الملكية تجسد ضمانة للحفاظ على اللحمة الوطنية. حيث أبان الملك عن مرونة كبيرة في الاستجابة لعدد من المطالب الاجتماعيةفي علاقته بمجتمعه، وهي علاقة تتجاوز الروابط السياسية إلى التعلق الكبير بشخصه، وبالتالي تحصين موقعه وزيادة منسوب الطلب الاجتماعي عليه، بما يخدم استمرارية عرش المملكة.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني