أي روابط للثقافة بالتنمية زمن ما بعد الكورونا

الحسين بوخرطة
لقد تتبع المغاربة باهتمام كبير النقاش اللغوي، بأبعاده السياسية والهوياتية، الذي عرفته بلادنا سنة 2019، والذي توج، كما هو معروف، بالمصادقة المؤسساتية على قانون الإطار رقم 17-51، وصدور ظهير شريف في الموضوع بتاريخ 9 غشت 2019 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين. إن أبرز ما ميز هذه المحطة، مع استحضار ميزة التشابه مع تفاعلات النقاش الوطني في شأن مدونة الأسرة، هما أمران لا ثالث لهما، الأول يتعلق بمصادقة مجلس البرلمان على هذا القانون بتاريخ 22 يوليوز 2019، وبروز اعتماد موقف التحفظ بالنسبة لفريقي العدالة والتنمية والاستقلال على المادتين 2 و31 (مع تسجيل ثلاث أصوات رافضة عبر عنها كل من المقرئ أبو زيد الإدريسي، ومحمد العثماني، والشناوي وبلافريج)، والخرجات الإعلامية لرئيس الحكومة السابق السيد عبد الإله بن كيران التي جمعها، بأمر منه، الكاتب بلال التليدي في كتيب عنونه “موقف عبد الإله ابن كيران من فرنسة التعليم”. إنه كتاب مكون من ستين صفحة خصصت للتنديد بتغيير لغة تدريس المواد العلمية من العربية إلى لغة أجنبية.
وقبل أن أخصص مقالا مفصلا لقراءة مضمون هذا الكتاب لاحقا، وجدتني مضطرا في فترة الحجر الصحي زمن الكورونا القاتل، زمن التأمل والتفكير في المراجعات الفردية والجماعية، لفتح النقاش القبلي في موضوع روابط الثقافة والتنمية بكل جوانبها. إن أهمية هذا الموضوع/الإشكالية يتجلى في أهمية المصطلحين وتفاعلهما التاريخي الذي أبرز أن الأول يشكل الركيزة المحورية التي يتأسس عليها الوطن، ويتأسس عليها بذلك الحراك النفسي والمعنوي للرفع من نجاعة أفعال وسلوكيات الفرد داخل مجتمعه. فهي إذن، أي الثقافة كرأسمال اللامادي، تشكل القلب النابض للذات الحضارية وروابطها القوية بمردودية الشعوب. ونظرا لهذه المكانة السامية، نجد أن عددا كبيرا من المفكرين يدعون بدون تردد إلى تقوية تمثلاتها الحقيقية في أذهان الأفراد والجماعات، وتجسيدها كوعاء للقيم الإيجابية البناءة والمنتجة، وعاء تتوسع سعته وحمولته الكمية والكيفية باستمرار. إنه مطلب التوسيع والإثراء المطلوبين لتمكين المجتمع، من خلال ممارساته وانشغالاته وسلوكياته اليومية، من بناء شخصية وطنية قوية، وروح جماعية كادحة لا يفارقها رهان تحقيق النهضة والتنمية، رهان يجعل الممارسة المجتمعية فضاء لاكتساب المهارات التي تبعد هوية الأمة الثقافية عن آفتي التعالي والسكون والسرمدية، وتجعل الأفراد لا يكلون ولا يملون في مدها بالثقة اللازمة، جاعلين منه بذلك (المد المتواصل) تعبيرا حضاريا ومجتمعيا قادرا على خلق منطق ثقافي منفتح ومتضامن، تمتزج فيه آليات التأصيل والاستعارة والتأثر والتأثير، المستحضرة لمصلحة الأمة المغربية في التفاعل والتناقح الثقافي والفكري والعلمي مع الحضارات الأخرى. إنه المنطق الذي يجب أن يرسخ في السلوك الجماعي والمؤسساتي طموح تقوية اليقين في قدرة الذات المجتمعية المغربية لخوض مغامرات الاحتكاك السلمي والمعرفي مع حضارات الآخر وإنجازاتها، بدون الخوف من النتائج المحتملة لخضوعها (الثقافة) لآليات الحذف والإضافة والتطوير. لقد أصبح بديهيا، عصر التكنولوجيات وغزو الفضاء، وما يتطلبه من معارف تحتكرها في الوقت الحالي اللغات الأجنبية، أن تقوية ثقة المجتمع في حمولة ثقافته التاريخية المتراكمة عبر العصور أصبح مطلبا استعجاليا. وعليه، فلم يعد هناك أي مبرر في بلادنا، التي أبرزت قوة تدخل الدولة في التعاطي مع آفة انتشار فيروس الكورونا، للاستمرار في ضياع الوقت من خلال التماهي مع النقاشات الهوياتية الجانبية. إن التعبير عن الإرادة السياسية لخلق مقومات تقوية الثقة في قدرة ثقافتنا، كمعطى وطني سيادي، على التكيف مع المستجدات الكونية، يجبرنا على اتخاذ الإجراءات اللازمة التي ستؤكد للعالم أن الدولة المغربية واعية كل الوعي بدور العلاقات الثقافية في تقرير وتحديد طبيعة العلاقات التجارية والسياسية السليمة، وأن الرصيد الثقافي الوطني المغربي أصبح اليوم يتمتع بقوة معنوية مجسدة لإرادة أمتنا في اكتساب القوة المعرفية، قوة حريصة على البحث الدائم لتوفير الشروط الكونية التي تجعل من الروح المجتمعية فضاء رحبا للتعاطي مع كل الحقول الأخرى الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والدينية، والصحية، والتقنية، والبيئية، …إلخ.
إن الوضع الدولي يؤكد اليوم أن الدولتين الروسية والصينية، بعد التقدم الذي حققاه في القرن الماضي والعراقيل التي واجهتهم في نهايته، لم يعلنوا أي مقاومة عنيفة للنظام العالمي الجديد الذي تم الإعلان عليه انفراديا من طرف الغرب في تسعينيات القرن الماضي. لقد مرت ثلاث عقود على بناء المؤسسات النيوليبرالية العالمية بأجهزتها الدولية المعروفة، لنعيش اليوم حقائق جديدة، أبرزت أن الثقافة المنفتحة لها دور محوري في خوض معارك المنافسة الشرسة كونيا في مختلف المجالات. إن الدولتين السالفتي الذكر، بالرغم من كون إعلان النظام العالمي الجديد جاء على أنقاضهما أو على حسابهما، فقد توجا اليوم من أكبر المستفيدين منه، إلى درجة جعل اليوم بلاد الصين الشعبية تحتكر نسبة عالية في مجال صناعة الأدوية زمن الكورونا، مع التعبير على مستويات خيالية في استعمال التكنولوجيا في مجال الصناعات المختلفة والوقاية من الأوبئة الفتاكة، وعلى قدرة هائلة في نشر ثقافتها إعلاميا بكل اللغات تقريبا. لقد أقروا، انتخابيا وشعبيا، رئيسين قويين على المدى الزمني الطويل، مبعدين بذلك أسباب الخلاف في شأن قيادة الدولتين، ليتوجا اليوم في مصاف الدول الرائدة في مجال الاستغلال العقلاني للثورة العلمية والتقنية والصناعية والذكاء الاصطناعي والطفرة الرقمية وتكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والإعلام.
بهذه التطورات الثقافية المتنافسة كونيا منذ أكثر من أربع عقود، وصلت شعوب الكون إلى مرحلة مفصلية تتطلب استكمال فهم جديد للعالم، تكون فيه الثقافة خير للناس ومولدة للحميمية والألفة من خلال تفاعل هوياتهم. إنه تطور تاريخي جعل من آفة انتشار الكورونا محطة أساسية ومحورية للتأمل ومراجعة الذات. إنه وباء يخترق سيادات الدول والأمم بدون أن يميز لا بين أنواع الأنظمة، ولا بين المستويات المادية للأشخاص، ولا بين تراكمات ثرواتهم وممتلكاتهم، ولا بين معتقداتهم وأديانهم، ولا بين ألوان بشرتهم أو أعراقهم أو جنسياتهم. إنه وباء كوني فتاك، همش بالواضح النقاشات والخطابات والمزايدات والتعنتات التي احترفها روادها لا لشيء سوى لخدمة مصالحهم الشخصية على حساب المصالح الحقيقية لأوطانهم، وحول الفزع الذي أحدثه في كل بقاع الكرة الأرضية إلى نداء لتغيير النظام العالمي، نظام يخرج الشعوب من هذه الجائحة بالتعاون، وتجاوز الإيديولوجيات والأديان والقوميات، تعاون بمنطق إنساني، تتجاوز من خلاله جميع أنواع الانغلاق والتصلب والتطرف والكراهية للآخر. إن مجابهة وباء الكوفيد 19 يتطلب قدرة عالمية بمقومات الانتصار، تضفي النجاعة على سياسات الوقاية، وترفع إلى أعلى المستويات القدرة على المعالجة والتطبيب، وتضمن الرعاية والحماية اللاحقة.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني