القوة القاهرة و الاستحالة الفعلية

تحدث المشرع المغربي في المادتين 268 و 269 من قانون الالتزامات و العقود عن شروط تحقق القوة القاهرة المعفية من التعويض و الموجبة للفسخ و اشترط بأن يكون السبب خارج عن إرادة الملزم و غير متوقع و غير قابل للدفع، إذن، فالمشرع المغربي تحدث فقط عن استحالة التنفيذ في علاقتها المباشرة بالقوة القاهرة و لم يتعدى ذلك للحديث عن عسر التنفيذ و إمكانيات إيجاد حلول أو إبرام اتفاقات بشروط أخرى، كما تؤسس لذلك نظرية الظروف الطارئة، لكن كيف يتعين النظر لشرط الاستحالة؟
إذا كان المشرع المغربي لم يشرع بعد أي نص يتبنى نظرية الظروف الطارئة و اكتفى بالحديث عن القوة القاهرة و الحادث الفجائي و هو ما يمكن تسجيله كفراغ تشريعي، فإن اشتراطه لوجود استحالة في التنفيذ ,ينظر إليه القضاء و الفقه بشكل متشدد، فالاستحالة الفعلية ينظر إليها بصفتها هذه ,أي أن تكون حقا فعلية أي مانعة للتنفيذ بصفة مطلقة و على من يتمسك بالدفع بالقوة القاهرة أو من يؤسس دعوى الفسخ على وجودها , أن يثبت بأنه بدل عنايته و كل ما في وسعه لتنفيذ الالتزامات و التعهدات الواقعة على عاتقه بعد انتهاء الحادث الاستثنائي مع إثبات أنه كان بالنسبة له مانعا حقيقيا و حال دون التنفيذ بصفة نهائية و ليس مانعا مؤقتا أو يمكن التغلب على آثاره.
من العبث القول بوجود قوة قاهرة معفية من التنفيذ و التعويض إذا لم تكن الاستحالة لا زالت متحققة إثر زوال الحادث المتسبب ، فإذا كانت الدولة مثلا قد أطلقت برامج تمويلية و أدخلت صندوق الضمان المركزي كضامن للديون و إذا كانت المؤسسات البنكية قد منحت للمقاولات آجال تعليق استخلاص الاقساط تصل إلى سنتين، فليس من المقبول بتاتا أن يتمسك مقاول ما بانعدام وجود السيولة إثر توقفه المؤقت عن مزاولة نشاطه لحصول ظرف استثنائي تمثل في الحجر الصحي, في حين أنه لا يحتاج سوى الى مبلغ بسيط لإعادة تشغيل مقاولته و الحفاظ على مناصب الشغل بها , فقدرته في الحصول على قرض بنكي و بشروط مخففة تجعل من العقد قابلا للتنفيذ ببساطة و تجعل من تمسكه بالقوة القاهرة مجرد محاولة للتملص من مسؤوليته العقدية و من هذا المنظور فالاستحالة يتم تقييمها كذلك في مرحلة ما بعد انتهاء الظرف الاستثنائي, لتشمل أيضا عدم استطاعة المدين التخلص من النتيجة السلبية للظرف المتمثلة في عدم التنفيذ.
الاستحالة كما سبق الذكر، ينظر إلى تحققها من منظورين، عدم استطاعة توقع ودفع الحدث الاستثنائي من جهة وعدم القدرة الفعلية على تجنب آثاره من جهة أخرى أي أنه ينظر في السبب المانع من التنفيذ في علاقته مع شخص المنفذ وإمكانية تغلبه على الآثار الناشئة عن الظرف الخارجي الاستثنائي، فعدم القدرة على رد الحدث لا تعني عدم القدرة على رد آثاره والتغلب عليها.
وهكذا، جرى الاجتهاد القضائي والعمل القضائي بمحاكم المملكة بالاعتداد بالاستحالة المطلقة والتشدد فيها لقبول الدفوعات المتعلقة بالقوة القاهرة، بحيث لم تعتبر محكمة النقض في قرار صادر عنها بتاريخ 15 يناير 2008,أن المرض قد يشكل قوة قاهرة، بالنظر لإمكانية الاستعانة بشخص آخر و هو ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بالرباط، في قرار لها بتاريخ 27 فبراير 2008 , كما نفت نفس المحكمة في قرار لها بتاريخ 6 يوليوز 1963 اعتبار هيجان البحر بمثابة قوة قاهرة، لإمكانية التغلب عليه.
لكن إذا ما كان التنفيذ مرهق كثيرا أو يهدد بشكل كبير الوضعية المالية و الاقتصادية للطرف المنفذ، فهل يملك القضاء المغربي تعديل العقود بالزيادة و النقصان أو تعليقها بعد ملاحظة عدم توفر عنصر الاستحالة؟
طبعا , وكما سبق الذكر ,فإن المشرع لم يتبنى بعد نظرية الظروف الطارئة ,التي تتيح للقضاء تعديل شروط الالتزامات و تحقيق التوازن و العدالة الاقتصادية للعقود و لا زالت سلطة القاضي في التعديل تقتصر على منح آجال إضافية للتنفيذ في إطار نظرة الميسرة أو تتمثل في مراجعة الشروط الجزائية ، لكن إذا كان القضاء المغربي قد اتجه إلى اعتبار الاستحالة المطلقة وحدها الموجبة للفسخ و المعفية من التنفيذ و التعويض ، فإن تنفيذ بعض العقود إثر زوال الظروف الطارئة ,قد يحمل المدين خسائر مادية كبيرة أو من الممكن أن تهدده بالافلاس أو تجعل منه مديونا بشكل لا يطاق ، بالنظر مثلا لارتفاع المواد الأولية في السوق العالمية , فهل من العدالة أن يطالب المدين بتنفيذ التزامه في هذه الحالة أو أليس من العدل أن يستفيد من الدفع بالقوة قاهرة ؟
بإمكان المدين في هذه الحالة التمسك بالقوة القاهرة و المطالبة بفسخ العقد، على اعتبار أن التنفيذ متعذر و لا يمكن أن يحصل إلا بهلاكه أو من شأنه أن يلحق به أضرارا كبيرة لا يمكن إصلاحها، أي أنه يشكل بالنسبة له ضربة في مقتل و هو ما يرفع من قيمة العسر الحاصل إلى درجة الاستحالة و إعمالا لقواعد العدل و الانصاف التي هي قواعد قانونية كونية، فإن التصريح بفسخ العقد و إرجاع الأطراف إلى الحالة التي كانوا عليها قبل انعقاده، فيه من تحقيق العدالة ما ليس في تنفيذه، فلا ضرر و لا ضرار.
لقد أصبحت الحاجة ملحة في السير في مسار التشريعات المقارنة و سن مقتضيات قانونية تتبنى نظرية الظروف الطارئة ,التي تحل بشكل سلس المشاكل المترتبة عن اختلال التوازنات العقدية و عسر التنفيذ و التي تمنح للقضاء سلطات واسعة لتعديل العقود بالتعليق و النقصان و الزيادة, مما يضمن تحقيق عدالة اقتصادية و مالية للفاعلين الاقتصاديين و لمختلف الشرائح المجتمعية و خاصة في ظروف مثل ما بعد رفع حالة الطوارئ الصحية التي تسببت فيها جائحة كورونا و هو ما سيحسن من مناخ الاعمال و يزيد من درجة النجاعة القضائية و يعزز دور القضاء في حماية و تشجيع الاستثمار.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني