الإتحاد وترسيخ ثقافة العمل العقلاني وحب الحياة

الحسين بوخرطة
ما من شك، يعتبر الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من الأحزاب التي تأسست وتحولت إلى فضاء معرفي دائم، يتفاعل فيه الفكر بالواقع لقيادة التغيير الثقافي والعلمي المنشود في البلاد. لم تصدر عن مؤسسات هذا الحزب يوما مواقف تعتبر الحياة مغربيا مجرد مسار زمني لتوالي وتواتر وتلاحق المعاناة والأحزان، بل كانت دائما فضاء وطنيا لحياة شعب، باحث عن السعادة وحب الحياة.
تشبثا بهذه الفلسفة، عاش مناضلو هذا الحزب صعوبات جمة لأكثر من ثلاث عقود، دفاعا عن حق المغاربة في المشاركة في تنمية بلادهم بالعمل اليومي المتواصل، وبإعادة إنتاج قوة عملهم وتجديدها باستمرار من خلال توفير شروط الابتهاج والتفتح، ليتوج المسار النضالي برمته في التسعينات بالتقائية مؤسساتية وطنية تبشر بمرور المملكة المغربية إلى مرحلة ربط نفوس المغاربة، أفرادا وجماعات، بالأمل والرغبة المتواصلة لتغيير أوضاعهم المعيشية، وبالحرص على ديمومة الفرح والسعادة في مختلف مراحل حياتهم.
بالطبع، والمغرب يبحث اليوم بكل ما لديه من قوة على بلورة وترسيخ معالم فلسفة جديدة للتحفيز عن العمل الوطني، يبقى من الواجب تذكير أجيال الطفولة والشباب بمجهودات ومعاناة الماضي التي ارتبطت بالتفكير العقلاني والعلمي والممارسة النضالية. بمغرب اليوم، لم تعد الحياة، كما تم الترويج لذلك في الماضي، تعتبر عبثًا جذريًا، ولا تستحق أن تعاش، والقوى والإرادات بها غامضة لا يمكن تفسيرها. لم تعد الحياة إسقاطًا للمصائب والمعاناة المثيرة للخوف الدائم في حياة المواطن، خاصة ما يترتب عن إيديوجيات نشر الخوف من الموت الهادفة إلى تحقيق ربط التخويف بتأجيل وعرقلة العمل الجاد المنتج للسعادة. بل وصل المغربي، بفضل نضالات قواه الحية، إلى عتبة الفهم الكافية التي سمحت له اليوم، بإدراك أنه يعيش في عالم مادي، مكوناته قابلة للتلف بما في ذلك الإنسان. إنها الحقيقة الأساسية التي جسدتها، فكرا وممارسة، فلسفة حزب القوات الشعبية، وحولته إلى مرجعية فكرية ونضالية. إنها المرجعية التي أفضت، مع مرور الزمن السياسي بمصاعبه ومآسيه، إلى ترسيخ الاقتناع مجتمعيا بعدم التوقف عن التفكير والاستمرار في العمل والسعي للتغلب على المحدوديات المكانية والزمانية المصطنعة. لم تتراجع يوما فضاءات هذا الحزب في الدفاع عن الثقافة الوجودية للمغربي، وأن امتداد وجوده في الحياة مرتبط أشد الارتباط بالعلم والفكر والفلسفة. أكثر من ذلك، لقد أصرت مؤسسات هذا الحزب الترابية على التشبث بحق المغاربة في الحياة السعيدة، مستحضرة بدون انقطاع الحاجة إلى تحويل رؤية المرء المتشائمة المؤلمة، المشوبة بالخوف واعتقاداته المصطنعة، إلى رؤية متفائلة بإسقاطات مستقبلية واقعية ودائمة، تربط الحياة والتجربة اليومية بالمتعة والفرح والبهجة.
إن الخدمة الحقيقية للشعب المغربي ومستقبله في أدبيات الإتحاد مرتبطة أشد الارتباط بالتربية عن العمل والتعليم والصحة. فالاتحاد، لا يرى أي فائدة تذكر في الإشراك التعسفي للأطفال مبكرا في الإطلاع على قناعات تستدعي النضج الكافي في التفكير، قناعات لا يمكن وصفها إلا بالعبثية بالنظر إلى سن المتلقين (فلذة أكبادنا). فلا يمكن تعريض الأطفال لمصادفة أفكار ونقاشات تتطلب نضجا معرفيا كبيرا، كاعتبار العالم مجرد فضاء لتمثلات عالم الإرادة الخالدة. لا يمكن، في سن كسب وإدراك المعارف والمنطق في التفكير، تعمد إحداث أي تقابل لضمير الطفل النامي مع فكرة كون الوجود ليس سوى تمثلات للعالم الحقيقي، وما هو إلا جانبًا بسيطًا منه.
في هذا الشأن بالضبط، لا يمكن للمناضل إلا أن يفتخر بفلسفة حزب الوردة، فلسفة ناضلت وتناضل دائما من أجل تعويد الأجيال على التفكير، وربط الجدل الفكري، المتقدم علميا وفلسفيا، بسن الرشد. فبدلا من دفع الطفل، رغما عنه وعن قصد، إلى مواجهة أفكارًا مخيفة ولا يستوعبها سنه، كدفعه مثلا، داخل إحدى فضاءات التنشئة الرسمية، لمواجهة فكرة كون العالم المعاش ليس هو العالم الحقيقي، بقدر ما هو تجليات لتمثلات تطورت تاريخيا عبر الحقب والعصور، سيكون من الحكمة إقناعه، في سن مبكرة وبشكل غير مباشر، من فائدة قانون السببية، الذي يفيد أن كل سبب ينتج عنه نتيجة، وأن التأثير لا يوجد بدون سبب. إن تربية الطفل وصقل وعيه باستمرار على كشف واكتشاف النتائج وآثارها وأسبابها، يعتبر السبيل الوحيد لتربيته وإقناعه بفائدة البحث الفكري والعلمي في تحقيق التقدم، والأساس الذي يسمح للإنسان تسخير مجهوداته ووقته للبحث العقلاني الدائم عن خبايا وآثار الإرادة الخالدة، وبالتالي التقرب من الحقائق المطلقة، وتشييد الحواجز المعرفية الواقية من السقوط في المتاهات الفكرية والعقلية. إن التربية عن أهمية السعادة في الحياة، تمكن المرء من مقاومة المحدوديتين المعروفتين، المكانية من خلال بحثه المستمر لكشف أمكان أخرى في الكون والتنقل إليها من خلال تطوير التكنولوجيات لعبور المسافات بالسرعة الفائقة أرضا وجوا، والزمانية من خلال تطوير العلوم والطب والصيدلة لمقاومة الشيخوخة وتمديد أمل الحياة (تأخير ساعة الموت) مشتملة الإحساس بالسعادة والعافية. فطول عمر الإنسان، مع توفير شروط العمل المنتج للسعادة والصحة، يعتبر هدفا إنسانيا نبيلا يحمل مقومات كشف حقائق الأمكنة الخفية في الكون ومزاياها وفوائدها بالنسبة للبشر، ويجعله في بحث مستمر لتملك الأشياء الجميلة، وتقاسم القيم الإنسانية، وبالتالي الشعور بالفرح وهو يغادر الحياة ليعانق بشجاعة العالم الأخروي.
وختاما أقول، إن الفلسفة الاتحادية تعتبر المغربي مشروعا (pro-jet)، يطمح دائما للسير إلى الأمام، واعيا كل الوعي أن الطبيعة البشرية تتميز بالرغبة في التطور، وأن مع مرور الأيام والمكتسبات يتحول المرء من وضعية إلى أخرى أكثر تقدما، وأن الكدح من أجل السعادة الفردية والجماعية يجعل الفرد دائما غير راض عن وضعه الحالي، ساعيا إلى تحقيق الأفضل. وبذلك، تعتبر هذه الفلسفة مفهوم “الرغبة” مصطلحا مقابلا للحاجة عند الإنسان، وبذلك فهي قوة داخلية تدفعه دائما للاقتراب من الأشياء طامحا تملكها باستحقاق والتمتع بها. كما تعتبر الحب منتجا للسعادة الإنسانية عامة، وللاستقرار وإنتاج الخلف واستمرار الحياة بالنسبة لعلاقة الرجل والمرأة خاصة (مقاربة النوع)، وبالتالي ترسيخ ثقافة البحث العلمي والعاطفي باستمرار عن مكملات جديدة تزخرف الحياة وتحسن من مستواها.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني