إسهامات البناء النصي في فهم دلالات العتبات النصية، قصة “جدة بلا حكاية” نموذجا

عبد اللطيف أيت حسو
باحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط

بعد قراءة متأنية للمجموعة القصصية للقاص المغربي “عبد السلام مرابط” قراءة تحمل في طياتها هوس العثور على إجابة شافية للسؤال المركزي الذي وسمت به المجموعة، سؤال متعدد الصيغ خاضع لإسقاطات عدة؛ نبحث عنها في سياقات مختلفة ابتداء من المعنى الأول الظاهر بعيدا عن أي تأويل قبل الخوض في وضع فرضيات، ثم خلق علاقة داخل أحداث النص بحثا عن الجواب أو الاقتراب منه.
تم اختيار قصة “جدة بلا حكاية” من بين مجموعة قصص، اختيار لا تحكمه شروط ولا خلفيات كون جميع النصوص تحمل حسا إبداعيا واحدا رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، كما أن لا سلطة لأحد على القارئ لاختيار نص بدل آخر احتذاء بحرية الكاتب في اختيار الضحك بدل الابتسامة.
نص جدة بلا حكاية يأخذ القارئ في رحلة البحث في البدايات وإحياء الموروث الثقافي المهدد بالاندثار ضمن نسق محكم ينعش ذاكرة كل قارئ يشده الحنين لأيام الصبى، التي نعيش بعضها مع هذا النص الذي نحن بدراسته في ارتباط بعنوان المجموعة القصصية “كيف تضحك الوردة؟” .
في هذا النص يجد القارئ نفسه أمام استثناء وخروج عن المألوف، أمام صياغة تطرح أكثر من سؤال عن سبب غياب الحكاية، فهل فعلا هناك جدة بلا حكاية؟
يستهل القاص نصه بتوطئة موجزة حول الإطار العام للقصة حين قال: “ترتبط الحكاية بالجدات ارتباطا وثيقا، كأن الله اختصهن وحدهن بالحكي دون سائر المخلوقات”، يشير الكاتب إلى العلاقة الوطيدة التي تربط الجدة بالحكاية إشارة لإثارة فضول القارئ لمعرفة أسباب غياب الجدة من الحكاية”.
تجدر الإشارة إلى أن النص لا يقدم إجابات مباشرة بقدر ما يسعى إلى استفزاز القارئ ودعوته إلى إعمال التحليل والتفسير والتأويل، إذ لا يتأتى ذلك إلا بوجود كاتب وقارئ يشتركان في كل الآليات وهذا صعب التحقق في أي حال من الأحوال.
إننا أمام جنس مقتصر بالجدات فقط، مشيرا إلى ذلك في مقطع ساخر بطعم النكتة، حيث تناول موضوعه بأسلوب مرح نستشف من خلاله أن الحكي هو سلاح الجدات به تحارب قسوة الزمن، حكي يجسد لحظات ضاربة في الأعماق يسير كما وهب الحياة لشهرزاد وتأجيل المصير، فهي الوحيدة التي لها الحق في الحكاية ولتأكيد ذلك يقول الكاتب: ” تبين في الفصل أن التسمية وحدها ‘حكاية الجد’ مدعاة للضحك والسخرية، الجد ليس أهلا للحكاية كما عبرت عن ذلك الأزمان والمواقف، لذلك لا يزعم أحد من الأجداد اليوم فعل ذلك”.
إن المتأمل في النص يجد أن الحكاية مختصة بالأنثى فقط، أما الجد والتلميذ فهما الأجيال فهما يشتركان في غياب أسلوب الحكاية، لذلك يمكن القول إن “إلياس” يمثل الجد ويقتفي أثره، هنا تكمن براعة الكاتب في تضمين إسقاطات غير مباشرة يدعو من خلالها القارئ إلى إعمال العقل وتوسيع دائرة التأويل بحثا عن أوجه الائتلاف والاختلاف.
ننتقل إلى مضمون الحكاية في اشتراك مع الكاتب في طرح تساؤلات وهي كالآتي: عم كانت تحكي الجدة؟ هل الغول يسكن الجبل الذي بجوارنا؟ بالرغم من الإجابة التي قدمها عبد السلام مرابط تلك المرتبطة بالبطولة والشجاعة والغول والحكم يجيبنا القاص:
“اليوم ربما علمت أن الغول الذي كانت تقصده الجدة هو الجد، الأجداد من يمتطون الجبال الوعرة، ويمرون بالغابات الخطيرة، أما الجدات فيظلن حبيسات المنازل، يقمن بالأعمال المنزلية، يخطين الأثواب وينسجن الحكايات على أزواجهن”.
في هذا المقتطف يُلاحِظ أن القاص “عبدالسلام مرابط” يَفترض كون الغول الذي اجتاح حكايات الجدات هو الزوج ولا أحد غيره، في ارتباط بالعنوان دائما، نقف أمام استنتاجات هي أن الوردة مع تيمة الضحك تقابل الحكاية مع البطل/ الغول؛ الأولى تحتاج إلى جو يسوده الحب والفرح والبهجة، والثانية تحتاج إلى مسرود غني بأحداث يمنحها مفهوم الحكاية، هنا يطرح سؤال ما الذي يمنع الزوج أو الغول بتعبير القاص من سرد حكايته؟
يورد القاص في نصه أن الجدة كانت تروي الحكايات لحفيدتها، معنى هذا أن للجدة حكاية في الأصل وفي أعراف المجتمعات، في حين يجسد العنوان عكس ذلك، هل هذا إجحاف في حق الجدة؟ أم هل للنسيان يد في هذا الحرمان، يقول في هذا الصدد:
كانت أمينة التي درست معي طوال سنوات الابتدائي تقول لي إن أحب شيء إلى نفسها هو الوقت الذي تختلي فيه مع جدتها في البيت فتروي لها الحكاية تلوى الأخرى، لكن أسفها على شيء واحد أن ذاكرتها ضعيفة من أن تتذكر ما ترويه لها جدتها كل يوم، ويا أسفاه على وقت لم تكن أمينة تدون كل تلك الحكايات، ربما لم تكن على علم بأن الجدة ستفارقها بعد حين لتلتحق بالسابقين.
ينتقل القاص إلى شخصية أخرى وهي “أمينة” وهي علاقة الشفهي بالكتاب، حيث إن عدم تدوين للحكاية عرّضها للضياع، هنا نقف عند أهمية الكتابة في حفظ المكتوب وجعله عابرا للأزمنة عكس الشفهي الذي يفقد بعضا من مضمونه نتيجة الروايات المختلفة أو كلها كما حصل مع “أمينة”، وفي هذه المرحلة تجاوز السبب الحرمان إلى مفهوم النسيان أو بمفهوم آخر، أن حكاية الجدة كانت موجودة لكن بفعل النسيان ضاع نص الحكاية ولا أمل لاستعادته على اعتبار فقدان الأصل السارد/ الجدة.
كل هذه الأحداث خلفت في ذهن الكاتب حسرة بعد ضياع الموروث، خاصة المرتبط بالأصل معبرا عنه بقوله: “لقد تَسَمَّرْتُ في مكاني لا أستطيع الحركة من شدة ما أصابني من هول المنظر، وبقيت على ذلك وقتا طويلا لا أحرك شيئا من جسدي سوى تلك النظرات التي أرسلها إلى الصبية عطفا وحنانا ورثاء على رثاء، وكنت لا أحس بالشمس وحرها وهي فوق رأسي، لأن من كان في موقف مثل ذلك الموقف نسي كل شيء إلا أنه واقف أمام جثتين إحداهما تحت التراب وأخرى فوقه”.
رحلت الجدة إلى دار البقاء وتركت “أمينة” في حزن ويأس شديدين رحل أصل الحكاية في غياب تام لحفظ الموروث، ولعل وصف القاص لأمينة بالجثة وهي على قيد الحياة إحالة إلى أن الحكاية تأصيل للحياة وشهادة على أحداث أزمنة غابرة والتمسك ببطولة الأجداد وإصلاح ذات البين بين الماضي والحاضر، لكن بانتفاء شرط الحفظ دفعت ثمن عدم توثيقه وإحيائه من جديد.
بقيت أمينة على تلك الحال سنين تبكي جدتها إلى أن غادرت دراستها بُعَيد إتمامها للمرحلة الابتدائية، أما أنا فبكيت لحالها وتغير مجرى حياتها، وبقيت أياما أرثي وردة أنارت كل الأرجاء هي اليوم إلى الذبول.
في هذا المقطع يشير القاص إلى أن فقدان الحكي ولذته موتٌ على قيد الحياة هي كالوردة الذابلة فاقدة للابتسامة أو لنقل الضحك حسب تعبير القاص، اقتطفت وحرمت فضاء التعلم رفقة أقرانها، ثم يسترسل القاص في وصف الأمكنة وتعابير الأوجه الصادقة ذلك بالرغم من دورها الفعال في انسجام القصة إلا أننا اقتصرنا على بعض المقتطفات التي يمكن أن تخدم موضوع الدراسة. من بينها هذا المقتطف الأخير الذي أنهى به الكاتب قصته:
حين حضرت عرس ابنة أمينة لم أفرح كما فرح الجمع، ولم أسر سرورهم، وبقيت متسمرا أقلب نظري في اتجاهين، تارة أنظر في الزمن الماضي نظري في صديقة الطفولة، وتارة أنظر في الزمن الحاضر نظري في شابة زُفت إلى زوجها فاضمحلت الأماني وتلاشت، وبقيت أردد في نفسي: عما قريب يا أمينة ستصبحين جدة بلا حكاية، نعم، جدة بلا حكاية، وستصبحين زمنها أنت الحكاية نفسها.
صارت الجدة بلا حكاية وسيأتي الدور على الحفيدة “أمينة” وابنتها كذلك. هكذا نسج القاص عبد السلام مرابط نصه تعبيرا عن ظاهرة اجتماعية في قالب ابداعي منسجم من حيث الأسلوبُ والبناء، خيّر فيه القارئ بين أمرين، الأول أن يقرأ النص مستقلا عن عنوان المجموعة القصصية، والثاني أن تقرأ في ارتباط به مع استحضار البعد الثقافي والاجتماعي السائد في القرى والبوادي، كل هذه الطرائق بناء على ما جاء من تحذيرات في تقديم الباحث “حميد بوجمعة” للمجموعة التي تنم عن قراءة عميقة وعن إحاطة كلية لنصوص العمل الإبداعي، فكلما اختلف القراء اختلفت المضامين والتوجهات، إذ لا وجود لإجابة مباشرة صريحة يقول فيها القاص إن الوردة تضحك هكذا لذلك فتح باب التأويل على مصراعيه ليجد القارئ نفسه محاطا بجملة من الأسئلة حول مقصدية صورة الوردة هل تنحصر فيما هو فيزيائي أم يقتضي الأمر تجاوز ذلك إلى طبعنة الإنسان وأنسنة الطبيعة.
إن قارئ العنوان منذ الوهلة سينساق نحو الطبيعة والوجدان، في حين تثبت النصوص عكس ذلك تماما، هذا لا يعني أن هذه الدراسة عثرت على معناه بقدر ما تحاول فتح مجال لتأويلات عدة لنصوصه الابداعية توارى من خلالها القاص فاختار أن يكون إبداعه مفتوحا يخاطب كل قارئ. بالتالي نجد ضحكات مختلفة بدل ضحكة واحدة وورود متفاوتة الأشكال والألوان.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني