حسون، السيدة أبو تراب والعمل المأجور (الجزء الثاني)

 

أقبل شهر يونيو. توجه حسون في أول يوم من الأسبوع، صحبة صديقته رميساء، إلى كلية الطب والصيدلة. كان اليوم مشمسا وجميلا. استقبلهما العميد شخصيا. حضر الكاتب العام بعد استدعائه هاتفيا وتسلم منهما وثائق التسجيل، ومنحهما أصولين بذلك. وفي دقائق معدودات، أنجز لكل واحد منهما بطاقة الطالب. أحضرهما للتو إلى العميد للتوقيع. تسلم حسون وصديقته، التي لا تفارقه كظله، البطاقتين. بعد انتهاء عميد الكلية من مكالمة هاتفية مع رئيس الجامعة، أنبأ حسون بخبر قبول طلبه للعمل ليلا بمختبر الأبحاث العلمية التابعة لوزارة التعليم العالي وتكوين الأطر. خرج حسون والفرح يتطاير من وجنتيه. إضافة إلى ما انتابه من شعور بالافتخار لما قوبل به من ترحيب وحفاوة الاستقبال، عاش لذة التمتع بالفضاء المؤسساتي الجامعي بأساتذته ومسؤوليه. وقبل افتراقه مع رمسياء أمام فيلا أسرتها، أخبرته بتقدم الترتيبات والاستعدادات لتنظيم يوم الاحتفاء به في منزل الأسرة. لقد اتفقا على آخر يوم في الشهر الجاري تاريخا لإحياء الحفل، الذي ينتظره حسون على أحر من الجمر.
في اليوم الثاني، بلج حسون باشقا في أول يوم إلى مقر عمله. استقبله مدير المختبر، اسمه عبد الغفور السامري، المكتوب بالخط الكوفي في لوحة التعريف بالمسؤولية، بنظرات بليلة بالعواطف والاحترام. تبارت الإحساسات بداخله بدون أن يبدد تركيزه على قائد مؤسسة مشهورة ومعتمدة وطنيا ودوليا في مجال البحث العلمي. غمرته إشارات الترحيب، فاطمأن. لم يشعر كما كان منتظرا بأي تأفل أو تباهي. إنه أمام بكباك بجمجمة صلعاء لا تشبه الجماجم، جمجمة عالم خبير. تأبت بقلبه حب الوطن. لقد عاش في فضاء هذا المكتب الجميل والبسيط في نفس الوقت تفاعلا تازرا من الشرور ومجمل تعابير القنوط. عج نفسه بالطموح عازما مغالبة الأخطاء والهفوات، والانتصار للجرأة الإصلاحية المحسوبة والدأب المتواصل. تأسر حسون في مشيته في اتجاه كرسي الاستقبال. قدم التحية بأسلوب ونبرة تدرب عنهما مسبقا مع صديقته رميساء. جلس يمينا كعادته أمام الخبير ومكتبه. تألب بهذه القيادة المحاطة بمجلدات التقارير البحثية. دار حديث مطول مع صاحب النقطة القياسية وطنيا في مباريات الولوج إلى كلية الطب والصيدلة. لقد أسر له السامري، بإشارات قوية ومنبهة للرفع من مستوى يقظته، قائلا: ” مرحبا بك يا ابني، ستكون إن شاء الله قيمة مضافة في هذه المؤسسة. وصولك لمبتغاك وأهدافك بالروح الوطنية والعلمية التي تنبعث منك يتطلب أن تفهم وتتفهم بعمق أن في مجال العمل المأجور، بميزانياته وطموحات العالمين به، ستصادف التافر، الذي يكون في غالب الأحيان أجوفا، والجاحد، والجاسم، والجلف، والنزيه والغشاش …. ستواجه وستتعامل مع شخصيات لها امتدادات خارجية سواء مع زبناء كبار أو مسؤولين في السلطة أو سياسيين أو نقابيين ….. نجاحك يبقى إذن مرتبطا بقدراتك على التكيف وتدبير الخلاف بأريحية. هذا هو المستوى العالي السابق في تدبير ملفات المهام التي كلفت بها، وعليك أن تحقق ثلاث أهداف إصلاحية إضافية خلال سنة. فتح الملف المعني، فاسترسل في التوضيح والتحليل والتعقيب. ختم مداخلته ناصحا حسون: “تحقيق النجاح في هذه المهام يستوجب أن يكون المسؤول عنه حليما وخلابا، وأن يتورع الأمور بحكمة.”…..
بارح حسون مكتب مديره. تعتع العودة إلى منزله منشغلا بأسئلة مؤرقة تتعلق بالقادم من الأيام الأولى في عمله الجديد. لقد تناطحت الأفكار في عقله في موضوع تيسير/تعسير الخطوات الأولى من مهامه، ومدى استعداده المعرفي لتذليل الصعاب بدون كلل منهك. خاطبه ضميره مستحضرا مفاهيم التيسر والتهيؤ والتيقظ والتحرر والتنبه وشروط التحقيق الجبري والسلس للأهداف الأساسية والجزئية الواحدة تلو الأخرى. انشغل أكثر بالمرجعيات المعرفية التي ستسهل عليه تشخيص العراقيل وتجاوزها. لم يأبه، وهو يقود دراجته الهوائية، بالمارة. سيطر على مخيلته كلام مديره. جعل من التفكير في سبل تفنيد مقاومة التغيير أولوية. الانطلاقة لا يمكن تنجح بدون خطة مدروسة لاجتثاث الأورام القاتلة لمعنويات فريق عمله، وجدع ودحر امتداداتهم الداخلية والخارجية المناوئة للتغيير. تفاعلا مع ضغوطاته المسترسلة على دواسة دراجته الهوائية، استسلم للتفكير مجددا في جرعات الروية والرفق الكافية لتطعيم الإجراءات الإدارية والتدبيرية لدفع الرديد كيف ما كانت ارتباطاته للعدول عن مكائده. فكر ودبر واهتدى إلى كون زلزلة التعودات السميجة والشاذة هي الخيار الأنسب لخلخلة منطق التدبير السائد. إن الخروج من ألفة المسايرة في التنفيذ سيترتب عليه لا محالة أوضاعا جديدة. قرر بلورة وإعداد خطة بديلة، وقرر مناقشتها مع مديره في اليوم الموالي. لقد حدد مراحل واضحة، بوسائل معنوية أكثر ما هي مادية، لتحويل مقر عمله إلى روضة للتحفيز والمردودية.
وهو على مشارف آخر تجزئة عصرية مجانبة لحيه الهش، أثار انتباهه امرأة ضاربة في العمر، امرأة عجوز وقور. الرزانة التي تنبعث منها تستمد مقوماتها من الوقار والثقل والسكون الذي يميز جلوسها. توقف حسون منجذبا بكلامها وعنفوانها البديهي. لقد اقترب منه رجل كهل، معروف باسم عتريس، فأسر له أنها السيدة الفاضلة حليمة أبو تراب. تخرج كل صباح ومساء إلى نفس المكان. فور جلوسها واعتدالها فوق وسادتيها المحشوتين بالصوف الناعم، الأولى تفترشها والثانية تتكئ عليها، تسترسل في سرد الحكايات الواحدة تلو الأخرى. الخيط الناظم لحكاياتها ينم أنها امرأة فخورة بأمجادها. هناك من يردد أنها عاشت ظروفا قاسية حولتها إلى امرأة زاهدة. هناك من يعتبرها امرأة ميسورة وخروجها اليومي بمثابة واجب ورسالة إنسانية. وهناك من يدعي أن الغاية من خروجها اليومي هي مواجهة عقوق وسلوك بعض أبنائها وبناتها.
لقد تابع حسون كلامها بإمعان. أخذ قلمه ودفتره من محفظته. بدأ في تدوين عباراتها وكلماتها الثقيلة. بروح عطوف هادئة عبرت في البداية أنها تحس بالكل، وتتفهم أوضاعهم، وأنها تعتز بأبنائها وبناتها وتفتخر بهم عندما يشفق بعضهم على بعض. بمجرد الانتهاء من العبارتين حتى أحيطت بنفر حاشد من المارة. الكل يحملق في هذه العجوز ممشوقة القامة، ورشيقة الجسد رغما عن تراكم السنين عليه. رأسها متوسط الحجم، ووجهها طويل وعريض في نفس الوقت، جبينها يسطع منه نور الوقار والعفة، شعرها أبيض ناصع ممشط بفرق وسطي نصفه مغطى بمنديل ذا جودة عالية. وجهها البريء يتوسطه أنف من الحجم المتوسط. لها عينان زرقاوان كالسماء. طباعها هادئ للغاية، تارة يكسوا ملامح محياها تعبيرات القلق، وتارة يمتعك النظر فيه بالهدوء والسكينة. في كلا الوضعيتين، لا تفارق ابتسامة الأمل شفتيها. يبدو أنها لا تشكو لا من الفقر ولا من التعثر المادي. ملامحها تنم كونها حنونة وعاطفية لا تسمح للانفعال والتوتر بمداهمتها. اللطف ينبعث من طيبة قلبها. تسترسل في سرد العبارات بمحياها مزركش الملامح، لا هو بالسعيد ولا العبوس ولا الحزين، ولا هو بالغاضب ولا القلق ولا المتوتر. لا نزوع لها للبكاء والاندهاش والحيرة والخوف.
بروحها المقدسة، التي يشهد بها رحال ونساء حلقتها، بشرتهم أنها ستخصص حوارا مع البعض منهم، حسب اختيارها في الأيام المقبلة، وطالبتهم بالحضور المكثف يوميا، واستمرت في السرد مرددة عبارات وازنة:
– أنا أحب وأعشق أبنائي وبناتي بمنطق الاستحقاق والمساواة. أنا أمقت منهم الانتهازي، والمندفع، والمتهور، وغريب الأطوار، والمغرور، والأناني، والمتفاخر، والمتباهي، والعصبي، والكسول، والمتسرع، وحاد المزاج والطباع،….
– ما يؤلمني أنني كلما هتفت من عمق كينونتي بقيم التآخي والتضامن والكدح، يثور الفاشلون أو الطامعون من ذريتي، ويشكلون معسكرات ضاغطة علي. حبي لهم جعلني ألوذ إلى الصمت كوسيلة للدفاع. أرغم على تحمل ويلات دسائسهم، وما يثيرونه من انكسارات نفسية وملل في الحياة لفلذة الأكباد الصالحين. أردد دائما على مسامعهم، بصوتي الدافئ الشجي والخافت والهادئ، لكي لا يسمعنا المتربصون بنا من جيراننا، أن لدي ما يكفي للجميع، ولدي الوسائل الكافية لمساعدتكم على تكوين مستقبلكم وإعداد أيام غد أفضل. أضيف دائما بحسرة وابتهال “اللهم كن لي وليا ونصيرا”. وأختم حديثي معهم بتحذيرهم مرارا وتكرارا: “لا تغرقوا هذه السفينة الشامخة بنا جميعا. ما تركه أجدادكم وما راكموه لا يسمح لكم بتبديده.”.
– كم أطمع أن تستوعبوا رسائلي. أنا أعشق منكم الثائر على الذات بمروءة، الأمين على حياته وحيوات ذويه وناس أمته، الشجاع، والمخلص، والصادق، والمتواضع، والرؤوف، والعطوف، والرزين، والعفيف، والطاهر، والمبادر، والمتحمس….. في نفس الوقت لا أطيق منكم الخائن، والجبان، والكذاب، والحسيس، والمختال، والمنحط أخلاقيا ومعرفيا، والفاجر، والفاحش، وبذيء اللسان، والمكتئب، والمشوش،….
– كرهي للتسلط والاستبداد وإنتاج الطاعة العمياء والتسيب جعلني أرى فيكم السند والحماية والعطف والحب والسعادة.
– عدم الكفاءة في العمل إخلال، وتفشي خيانة الأخ لأخيه كارثة. إن الوفاء بالالتزامات والعقود مرادف لطيبوبة الأصل وشرف المعدن. فلا مناص إذن من تنظيم العلاقة بينكم على أساس الحفاظ على الأمانة والوفاء لكي لا تختل الحياة وتضيع الحقوق وتتعثر الواجبات.
– الاتحاد، وجمع الكلمة، ولم الشمل، ووحدة الصف، ونبذ التنازع والفرقة والانقسام، هي مقومات العيش المشترك المنتج، التي لن تترك أي هامش لتفشي الفوضى والتشرذم والفساد والخراب وتعميق اختلال الأحوال. إياكم وترتيبات التركمان، وضحكات الفارسيين، وتغريرات داعش والقاعدة، وأطماع الأجانب وغدر الجيران.
– الثوبة بعد الخطأ فضيلة. فلا تستخفوا بمقومات وأسرار كينونتكم الإنسانية. عليكم العدول عن التمادي في ظلم الآخرين، ونصب المكائد للمقربين. إن المجاهرة بالخطيئة أمام الناس بكل جرأة هي سخافة وعدوانية، وتعمدا للتهوين بالخطأ في نفوس الناس وتحويل ارتكابه إلى مجرد سلوك عادي لا رادع له.
اندهش المستمعون من فصاحة السيدة حليمة، ومدلول عباراتها العميق، ووعدوها بالحضور اليومي لحلقتها القيمة. وقف حسون مشدوها أمام التعبيرات الإبداعية لهذه العجوز النابغة، متعجبا من حدوث هذه الصدفة الثمينة، معترفا أنه استلهم من كلامها ما كان يحتاج من دروس وعبر. قدم لها التحية الحارة، بعدما قبل يديها الكريمتين، ليسرع إلى غرفته المعهودة. جلس في مكانه المعتاد، وانهمك في إعداد خطته الإستراتيجية.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني