تساؤلات حول النظام القانوني لمسؤولية الدولة عن الأعمال القضائية التعسفية

بقلم: رضوان سند

تساؤلات الأستاذ رضوان سند حول النظام القانوني لمسؤولية الدولة عن الأعمال القضائية التعسفية: على هامش مسؤوليتها عن التعويض على الاعتقال الاحتياطي المتخذ تعسفيا و بشكل خاطئ من طرف قضاء التحقيق

ظلت الدولة و لفترة زمنية طويلة غير مسؤولة عن الأضرار التي تلحقها بالمواطنين عبر مؤسساتها ، على اعتبار أنها تمثل المجتمع و أن وسائل السلطان و القوة بيدها ، لاسيما  إذا تعلق الأمر ببعض المؤسسات ذات الأنشطة السيادية .
إلا أنه في أواخر القرن التاسع عشر  و بداية القرن العشرين أخذ مبدأ  عدم مسؤولية الدولة يندثر تدريجيا، حيث أدت عوامل عدة إلى العدول عن هذا المبدأ، حيث أن مبدأ مسؤولية الدولة عن الأعمال التعسفية للمؤسسة القضائية فضلا عن  السلطة الإدارية كمرفقين جد مهمين و التي  يتضرر منها الأفراد و الجماعات داخل العديد من الدول   لم يتم تقريره دفعة واحدة ، بل جاء عبر محطات تاريخية تبعا لتطور الأنظمة الاجتماعية  و هو الأمر الذي حصل مع التجربة المغربية و الفرنسية كما سوف نرى.
و تبعا لذلك ، فإنه إذا كانت المسؤولية الإدارية في فرنسا قد نشأت قضائيا بالأساس منذ 1873 من خلال حكم بلا نكو . فإن مصدرها في المغرب كان تشريعيا بالأساس من خلال الظهير المنظم للالتزامات و العقود الصادر بتاريخ 12 غشت 1913 الذي قرر صراحة  من خلال الفصلين 79 و 80  مبدأ مسؤولية مرافق الدولة و الجماعات الترابية.
غير أن هذا الأساس التشريعي لم ينسحب على جميع الأعمال التي تقوم  بها الدولة، حيث ظلت أعمال السيادة و السلطتين التشريعية و القضائية بمنأى عن تطبيق المسؤولية عليهما بصورة  توشك أن تكون تامة.
و جدير بالذكر  أن نشير إلى ان السلطة القضائية هي الحامية لحقوق  الأفراد  و حرياتهم  حسب مضمون  دستور المملكة المغربية الحالي لسنة 2011 أو المراجع لسنة 1996، حيث لولا المرفق القضائي عبر نشاطاته او أعماله القضائية لكانت الحقوق المجتمعية في مهب الريح و لانتهكت الحريات الفردية ، لاسيما و أن القضاء هو المختبر الحقيقي الذي تطبق أمامه و عبره القوانين   بشكل سليم .
و عليه فلا مجال للقول بتطبيق سليم للقانون إلا عبر خدمات قضائية و عمل قضائي يستحضر أن القانون  هو أسمى تعبير عن إرادة  الأمة و الجميع متساوون أمامه و ملزمون بالامتثال له حسب تعبير دستور المملكة بالفقرة الأولى  من الفصل السادس منه،  إلى جانب ضرورة احترام حقوق و حريات المواطن ، سواء  كان هذا المواطن في موضع متابعة قضائية أو  ضحية ،  و في جميع مراحل الدعوى العمومية سواء قبل مرحلة  هيئة الحكم أو أثناءها او بعدها .
و اقتناعا بمبدأ  سمو القانون ، فإن المرفق القضائي كباقي المرافق العمومية ، يجب أن يخضع لقواعد المسؤولية الإدارية على  فرض ثبوتها،  و لا  يمكن أن يتم الحد من هذه المسؤولية أو إلغائها مبدئيا  تحت ذريعة استقلال القضاء  سواء نيابة عامة أو قضاء تحقيق  ، و لا يمكن إبعادالمساءلة الإدارية للدولة  تحت علة خصوصية الأعمال القضائية، لطالما  و أن السلطة القضائية  ليست خارج نطاق المحاسبة  و أن المشروعية  هي  مناط ترتيب المسؤولية  في حقها  و الدولة بالتبعية بخصوص تعويض الأضرار التي تسببت فيها أعمالها القضائية .
و  بخصوص تحميل المسؤولية للدولة عن الإعمال القضائية التعسفية  دفع الفقه إلى ابتكار معايير  للتفرقة فيما بين ما هو من صميم الأعمال الإدارية التعسفية و ما هو من صميم الأعمال القضائية المتعسف فيها ، من خلال  معياريين الشكلي منه و الموضوعي ، و ذلك أن كلا من العملينيصدران أحيانا عن السلطة القضائية  ذاتها.
و رغم هذا التمييز الفقهي فإنه لم يكن موفقا في تحميل المسؤولية  للدولة  إلا في الشق المرتبط بالأعمال الإدارية التعسفية   التي تصدر عن القضاء ذاته لاسيما المرتبطة  بمسائل تخص موظفي الهيئات القضائية.
و إذا كانت الأعمال القضائية من جنس واحد فإنها عدة أنواع تختلف بحسب نوعية القضايا المدنية كانت أم جنائية ، تجارية أم إدارية،  و كلها ترتب مسؤولية الدولة عندما يظهر وجه الخطأ و التعسف في عمل مرفقها القضائي أو يظهر ما يبرر ضمان الدولة باعتبارها ضامن من لا ضامن له، لأنها تصدر لفائدة السلطة القضائية.
انها تختلف حسب  الجهاز الذي يتفرع  منه مرفق القضاء من قضاة الحكم و أعمال النيابة العامة و قضاة التحقيق  و الضابطة القضائية  و أعمال  كتابة الضبط، مما يفرض الوقوف على جل صور العمل القضائي التعسفي الموجبة  لمسؤولية الدولة.
و نظرا لكون التعسف في العمل القضائي  في إطار مسؤولية الدولة الذي يجسد صورة الخطأ   قد  ينتج عن فعل غير مشروع لا يرتكز  على أساس  قانوني، و قد ينتج عن عمل قانوني  او مادي مشروع ناتج  عن تصرف أثناء قيام  مرفق  القضاء  بنشاطه، فإن مفهوم الخطأ  في المسؤوليةلا يكاد يختلف عن مفهومه في المسؤولية الجنائية.
و بعيدا عن غموض الخطأ  القضائي  الذي اختلف بشأن تحديد معناه الفقهاء ، فإنه اذا كانت الدولة مواجهة بتقرير المسؤولية  ضدها  لصالح المتضررين فسوف تتحمل الدولة التعويض حتما .
و لاشك أن فرنسا كانت البداية الحقيقية للتصدي للخطأ القضائي عبر المطالبة بالتعويض  عليه إثر حملة فولتير، و اصدر المشرع  الفرنسي قانون 8 يونيو1895 ، و الذي أعطى للأفراد الذين حكم  ببراءتهم الحق في الحصول على تعويض عن الأضرار التي لحقتهم جراء الحكم السابق بالإدانة.
و انضافت بالقانون الفرنسي حالتين  متفاوتتين زمنيا  و هي حالة المخاصمة سنة 1932  و حالة التعويض عن أضرار الاعتقال الاحتياطي سنة 1970، و ذلك متى انتهت  سلطة التحقيق انه لا وجه لإقامة  الدعوى أو قضت المحكمة بالبراءة  متى كان الضرر استثنائيا، و في اخر المطاف تقررت مسؤولية الدولة عن الأضرار الناشئة عن الأداء المعيب لمرفق القضاء بموجب القانون المعدل لقانون المرافعات المدنية الصادر بتاريخ 5يوليوز 1972.
و لئن كانت فرنسا  قد اعتبرت  تقرير  المسؤولية للدولة عن العمل القضائي الخاطئ  و التعسفي هو المبدأ الأصلي  و عدم تقرير المسؤولية هو الاستثناء، فإن المغرب  ربما كان قريبا من التوجه القانوني الفرنسي  في ضفاء طابع المسؤولية عن  العمل القضائي،  و لو أنه لم يحدو حذوها في التنصيص على المسؤولية عن أضرار الاعتقال الاحتياطي الذي أصبحت السجون به  مكتظة، و كأنه هو التدبير القضائي الأصل و ليس استثنائيا .
و ذلك،  ان المشرع رتب فقط مسؤولية الدولة عن الأعمال القضائية في حالتين اثنتين : و هما حالة مخاصمة القضاة وفقا للفصل 81 من قانون الالتزامات و العقود  و الفصل 391 من قانون المسطرة المدنية ، فيما  الحالة الثانية فتكمن في  مسؤولية الدولة عن قرار أو أحكام القضاء الزجري  و التي تنظم مسطرتها مقتضيات مراجعة الأحكام  ضمن المادة 573 من قانون المسطرة الجنائية الجديد الحالي او المشروع المرتقب إدخاله إلى حيز التنفيذ.
و أمام  تزايد حالات الخطأ القضائي و تعسفات إجراءات القضاء  و قصور مسطرتي المراجعة القضائية و المخاصمة  فقي ضمان محاكمة عادلة و تحقيق العدالة الجنائية الناجعة، فإن دستور المملكة للسنة 2011 بالفصل 122 فتح إمكانية اللجوء لكل متضرر من خطأ قضائي إلى الجهة القضائية المختصة  للحصول على تعويض تتحمله الدولة. كما جاء بخضوع كل مرافق الدولة لمعايير الجودة و الشفافية و المسؤولية  حسب مقتضيات الفصل 154.
لذا و تكريسا  لمبادئ المحاكمة العادلة المتضمنة بتوصيات الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة  و الإرادة الدستورية السامية المصرح بهاضمن الفصل 122 من دستور المغرب فكان لابد  أن يثار نقاش أخر حول التعويض عن الاعتقال الاحتياطي لاسيما و إن التنظيم القضائي للمملكة الجديد المرتقب إدخاله لحيز التنفيذ تخلو المادة 37 منه من أي إشارة إلى تحميل المسؤولية للدولة عن هذا النوع من الاعتقال و تخصيص تعويضمناسب بخصوصه لفائدة المتضرر  من هذا التدبير القضائي  بعد ان قضى فترة زمنية بالسجن ثم فيما بعد صدر أمر بعدم المتابعة أو مقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به يصرح بتمتيع المعتقل احتياطيا بالبراءة كاملة
اذا كان لكل بحث نظريات ينطلق منها أو أبحاث تيسر له سبل البحث الجديد فإن بحثنا هذا  المشار اليه سلفا  نود أن نؤسس له من خلال نظريات و ابحاث مساعدة  و ذلك كمايلي:
هناك النظرية التقليدية التي تحدثث عن كون الاعتقال الاحتياطي ليس عقوبة سابقة لأوانها ANTICIPEE، و إنما  هي وسيلة إكراه تستعمل لمصلحة الدعوى العمومية . و هذا معناه أن الضرورة حسب النظريةالمذكورة  هي التبرير الوحيد ليس إلا.
و هناك نظرية للفقيه FAUSTIN HELIE   التي يشير فيها أنه من غير الممكن الإلغاء الكلي للاعتقال الاحتياطي، فكم حاول المشرع الفرنسي بموجب قوانين أصدرها سنة 1933 و 1935  التقليص و بشكل جد دقيق من مقتضياته حتى لا يتم الإضرار بالموضوعين رهن الاعتقال الاحتياطيين و هم سيحكم لهم بالبراءة او سيصدر في حقهم قرار بعدم المتابعة .
و هاته النظريات تفيد في  تفادي المطالبات بالتعويض لو ان الدولة في شخص قضائها قاموا  بتدابير أخرى أحسن .
دون أن ننسى نظرية البراءة التي تفترض في المتهم حتى و لو وضع على ذمة التحقيق ، و حتى و لو نسبت إليه أوحش الجرائم ، لأنه قد يصدر في حقه حكما أو قرارا بالبراءة  مادام هذا التدبير استثنائيا  و لا يشكل إلا وسيلة  لضمان حسن سير التحقيق  و إلا فإنه  إن المساس بنظرية البراءة من خلال هذا الاعتقال الاحتياطي التعسفي المسبب في الاضار يرتب مسؤولية الدولة عن التعويض .
و بسطا لشرح الإشكالية اكثر نشير انه رغم أن دستور مملكتنا المغربية الحالي جاء بمجموعة من الضمانات و الحقوق المتعارف عليها دوليا و ما وازاه من تكريس استقلالية السلطة القضائية، و ضمان حق المتقاضي في المحاكمة العادلة ، و حقه في التعويض عن الخطأ القضائي ، و ما وازاها من الحقوق الأخرى المكفولة دستوريا و المرتبطة بحسن سير مرفق القضاء ، إلا أن تنصيص المشرع الدستوري على ضرورة توفر الخطأ كأساس لتقرير مسؤولية الدولة عن الأعمال القضائية  سوف يستلزم منا تفسيره و التوسع فيه
و ذلك لأن تطبيق نظرية الخطأ كأساس لتقرير مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية يبدو صعب المنال ، نظرا لعدم إمكانية المضرور من العمل القضائي  بإثبات  قيام عضو السلطة القضائية بارتكاب الخطأ أثناء اتخاذ إجراء من الإجراءات بما فيهنا الاعتقال الاحتياطي كتدبير قضائي استثنائي،  حيث العملية القضائية  غير واضحة لجميع الناس المتقاضين تحت علة عدم الدقة و كثرة التشابك  فيها .
ناهيك عن أن القاضي ليس شخصا عاما يمكن أن  ينسب الخطأ إليه بكل سهولة و بساطة ، مما قد يؤدي إلى ضياع حق المضرور من الأعمال القضائية.
كما أن غموض النص القانوني في تحديد الجهة المختصة في التعويض عن الاعتقال الاحتياطي كعمل قضائي خاطئ قد يؤدي إلى نشوء تنازع في الاختصاص ، مع ما يمكن أن يتعلق بالجهة المختصة في الفصل بين مسطرتي مخاصمة القضاة و مراجعة الأحكام .
– خاتمة
ان مضمون موضوعنا هذا يحمل بين طياته العديد من التساؤلات و الإشكالات العملية التي تحتاج الى تعميق النقاش فيها استشرافا للمحاكمة العادلة من خلال هذا الاجراء الذي يحتاج الى ضماناته العادلة


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني