نشأة آبار مياه الشرب العتيقة

بقلم : محمد حسيكي

قبل ظهور آبار مياه الشرب بالمغرب، كان الساكنة يتمركزون جنبات المنابع الجبلية، والأودية الجارية والسواحل الرطبة، ولا ينتشرون في البراري الموسمية، إلا من أوقات فصلي الشتاء والربيع، ثم ينسحبون صيفا، حيث ظهرت من وسطهم حياة الترحال المرتبطة بتواجد الماء، من عدمه .

والطريف من عهدهم أنه كان من بينهم أشخاص ذوو خبرة واختصاص في الرصد الجوي من تتيع تنقلات السحب الممطرة وأماكن سقوطها بالغيث من المناطق البرية .

وعهد الاستقرار من الاماكن الداخلية بالبلاد، بدأ التفكير في بناء المدن، واختيار مواقعها من المناطق الغنية بالمياه الجوفية، حيث كان يجري التنقيب عن المياه قبل الشروع في البناء، الذي ظهر في شكل قصبات، وقلاع، وحصون، ومن الواحات قصر، التي ينطقها أهل الجبل دشر .

آبار المدن :

كل العمران التاريخي العتيق، من مدن وقصبات وقلاع وحصون، تزخر بآبار المياه الجوفية، فضلا عن السواقي الجارية، وخطار السواقي الجوفية المغطاة .

وكان أهل العمران بالمغرب قبل الشروع في البناء، يحل بالمكان أهل الخبرة في المياه السطحية والجوفية، كل يقوم بعمله التحضيري لإقامة المدينة، والتخطيط لسعتها العمرانية، مدينة أو قصبة أو قلعة أو حصن .

حيث تتم تهيئة مجاري السواقي، والخطار والصهاريج للري الزراعي وأشغال البناء، ثم حفر الآبار للبقع السكنية الخاصة بالعائلات الحضرية والأشغال المنزلية .

هذا ما كان يجري على العمران الأولي بالمدن التاريخية العتيقة المتواجدة داخل الأسوار، والتي تحولت من العمران الحديث إلى قصبات عتيقة تحيط بأطرافها العمارات المتعددة الطبقات، ومن المجال عمارات شاهقات .

مراكش العتيقة :

تنسب مراكش العتيقة إلى عهد المرابطين، والموحدين، والمرنيين، وعهد نزول بني الأحمر من المدينة أسست لهم القصبة العتيقة بمحاذاة الأسوار، حفاظا على الاستقرار المدني للمدينة، من تصدع العلاقة العربية الاسلامية مع البلاد الايبيرية .

وما ميز عمران القصبة عن المدينة، أنه كان يتركب من بناء أرضي، وأفقي، ذو أرضية مشتركة من الباب والبئر، داخل السكن كل يلقي بدلوه من قعر سكنه، وللبئر سدادتان سطحية وأفقية من الساكنين، حفاظا على نظافة البئر وحماية ركنه من حاشية البناء .

موقع مراكش من المياه :

يظهر من عمران المدينة ومجالها الحضري، أن ساكنتها من المناطق الواحية بحكم موقعها على ضفة الوادي وتوفرها على واحة نخيل، وإحاطة مساحتها بسور يشهد الموقع الحضري نزول عماله بالمدينة، من حارة السورة وهو حي الموقف العمالي الذي كان يشتغل على بناء أسوار المدينة، من عهودها الاولى بالبناء .

وأول الطبقة العمالية التي اشتغلت على بناء السور، تنسب إلى منطقة الساورة، ثم جاء بعدهم أهل القصر، وهم المعروفون محليا من اسم أهل الدشر .

والآبار الجوفية لا يخلوا منها سكن بالمدينة العتيقة، وهي أول البناء وأساس عمرانه، وتسمى بالآبار المنزلية الصالحة للشرب، وهي من الوجهة الحضرية، على شاكلة شبكة التزود بالماء الصالح للشرب .

وعهد الشبكة الحديثة للتزود بالمياه الصالحة للشرب، تم الاستغناء التدريجي على الآبار المنزلية، بعد ظهور السواقي البلدية من محل السواقي الحضرية العتيقة .

وحين تعميم شبكة التزود بالماء على المناطق السكنية، أغلقت الدور العتيقة الآبار، ومن الساكنة من حولها إلى مجاري حارة قبل تعميم شبكة الصرف الصحي .

الآبار الجوفية عهد السلاطين المغربية :

قبل ظهور الآلات الميكانيكية، كان الحصان هو اداة النقل في جميع مناطق العالم، وكانت الرحلات تقدر بالمسافة من الفرسخ عهد فرسان الخيل، حيث كانت محطات رباطيي الخيول متباعدة مع بعضها لمسافة ثلاثين كلم، وهي المسافة اليومية التي يمكن أن يقطعها الحصان مع يوم للراحة، كالمسافة بين مراكش والجوار، ناهيك عن المناطق الجبلية التي لها خيول خاصة بالمسالك الجبلية، تختلف عن خيول السهل، ومن المناطق الرملية الحارة تستخدم في النقل الابل الخاصة بالركب .

علاقة السلاطين بالآبار :

يروي الأهالي الأولون عن رحلة محلية للسلطان العلوي، المولى الحسن بن السلطان محمد بن السلطان المولى عبد الرحمان، رحلة نحو جنوب السلطنة، لتفقد عمران مدينة تيجانية المنطوقة من لسان الساكنة تيزنيت، .

أنه خلال إقامته من المخيم السلطاني، كان الخدم يقوم بالغسيل للملابس السلطانية، الرقيقة السدو والنسيج من بئر على منضد رطب قويم الصنع من معدن الفضة، خاص من مكان البئر بغسيل الملابس، وهو ما يصطلح عليه الساكنة من اسم– منضر البئر- .

وحين انتهى المقام السلطاني من الرحلة وزيارة المدينة، ترك المنضد الفضي من مكانه جوار البئر، لكن الساكنة تعاملوا مع المتروك عجبا، واكتسب البئر حرمة وقار، لا محل لهم فيه من التصرف والأشغال .

وبعد سنوات أعاد السلطان الزيارة إلى المدينة، والحلول من المكان، فوجد الأمانة كما تركها من محلها، وحين سأل عن اسم أهلها قالوا أهل طريقة تيجانية، فأطلق على المدينة اسم تيجانية، وراح اسمها جاريا على اللسان العام من دوي كلام بالاسم من تزنيت .

وهي مدينة تاريخية عتيقة تحيط بها الأسوار، ولا يخلوا عمرانها الحضري من الآبار، كما الشأن من جل المدن العامرة داخل الأسوار .

الآبار الجماعية :

هي آبار لها محلها من سجل التاريخ العمراني، وهي الآبار الخاصة بالمياه الجوفية التي تنتشر من الأوساط الفلاحية، لغاية الشرب وإرواء الماشية من البراري الموسمية .

والآبار الجماعية هي عنوان الاستقرار السكاني من حياة الترحال والبحث عن الماء، وتنسب الآبار والجوامع ذات مصالح وقفية على المنفعة الجماعية العامة .

وعهد سنوات الجدب واجتفاف الابار الجوفية، كان السعي جاريا على البحث عن الماء، مما حدى بالسلطات المحلية عن طريق المجالس الجماعية، إلى التنقيب عن المياه من عين المكان عبر ثقب جوفية وإنجاز شبكة للتزود بالمياه الصالحة للشرب، لفائدة دواوير الجماعات القروية .

ومن ثمة أصبحت الآبار العتيقة مهجورة من الوسط القروي، نتيجة التحول السكاني في نمط العيش، من الاعتماد على الطبيعة، والمجهود الذاتي للأهالي، إلى الاندماج الاجتماعي في الخدمات الأساسية ذات المنفعة العامة من مدارس جماعتيه، وإنارة عمومية وتزود بالماء .

شكليات الآبار القروية القديمة :

كانت الآبار تقام جانبا من مساحة جماعية، بحوزة السكان على الطريق العام، يتم حفر البئر على عمق من 20 متر إلى ثلاثين متر .

تكون فوهتها من السطح في حدود متر دائرية إلى عمقها المائي .

وعند الطبقة الحجرية الصلدة من جوف البئر، تبدأ عملية التكثيب وهي تسقيف البئر من بناية مداره، إلى نهاية فوهته بالأحجار الصلدة، التي كان يتم نقلها من المناطق الصخرية والجبلية، عبر الشباك المحمولة على ظهور الابل .

وبعد التفرغ من بناء تسقيف البئر، يتم إعلاء البناء في شكل قوس على فوهة البئر، ينصب عليه عمودان خشبيان، يوضع بينهما لولب خشبي ذو قضيبين حديدين، يستخدم لجر الدلاء المائية على ظهر الابل أو الذواب من قعر البئر إلى قرب من اللولب، حيث يتم إفراغها في حوض افقي يسمى رأس الصهريج، تفرغ فيه دلاء المياه، لشرب الحيوانات الكبيرة الحجم من الأبقار والابل والذواب والخيليات .

ويرتبط الرأس من البئر مع صهريج لجمع المياه، لوقت شرب الماشية من الأغنام، عبر جابية للمورد أسفل الصهريج .

وتخصص إلى البئر الجماعية مساحة جانبية، تحدد بأخدود جماعي يسمى أحفير ترابي، تستخدم مساحته لحصر مختلف الحيوان والمواشي وقت الشرب، كما يحتوي أشجار برية للظل، ومكان لنشر الملابس الصوفية من الغسيل، وضاية لصرف المياه المستعملة لحاجة الطيور والوحيش البري .

فضلا عن منضد حجري لأغراض التصبين، وغسل الأصواف التي كان يشتغل عليها الأهالي من الملابس والأغطية الخاصة بحياتهم القروية .

وكان الدوار الجماعي يحتوي في معدل عام على ثلاثة أبار جماعية، وهي من التراث المائي القروي، كالمدن العتيقة من المجال العمراني .

تؤرخ أعماقها لعهد التنقيب ووفرة الماء من المنطقة، ناهيك عن فترات الجفاف التي أصبح الماء منها غورا واشد عمقا، والتي تلاها من العصر الآلي ظهور الآبار الارتوازية، التي تشتغل آليا بالطاقة الرياحية من البراري الموسمية، عهد الأربعينيات من وصول القوات الامريكية العابرة نحو الجهات الأوربية .

السانية :

منها الجماعية للشرب، والخاصة للسقي، وتوجد السانية من الاماكن التي يقرب فيها الماء من السطح، وتكون فوهتها عريضة الدائرة القمرية، وهي بعمق مترين إلى ثلاثة أمتار، ويتم جدب الماء ورفعه منها بالأيدي بواسطة دلاء يدوية خفيفة .

وتكون مسقوفة الجوانب بالأحجار الكلسية الصلدة، حماية لجوانبها القريبة من السطح من عوامل الردم والانهيار، تستعمل مياهها للشرب من المناطق القروية .

ومن الفلاحين من يستعمل السانية من أرضه للأغراض الفلاحية، من إنتاجات الخضر والفواكه، وعندها يستخدم الحصان أو الجمل لجلب الماء من القعر، بواسطة دلو ضخمة تسمى الأغرر وهو دلو حلقي كبير له حبلين، حبل الثقل من جرة الحيوان وحبل يجره السائق من بعد، عند عملية التفريغ من فوهة الدلو الحلقي، نحو صهريج التجميع المائي .

الأثقاب المائية :

ظهرت الأثقاب المائية وهي أبار حديثة، لا تسمح بسقوط صغيرة ولا كبيرة في التقب لصغر الفوهة، التي لا تزيد عن الحاجة .

وقد لجأ إليها الفلاحون أولا من الأراضي السقوية، من عوامل الجفاف التي تهز البلاد وتعرض إنتاجهم الفلاحي لانقطاع مياه السدود، نتيجة الضغط المتزايد عليها من المدن لحاجة الماء الشروب، والاستخدام الصناعي .

الشيء الذي جعل الفلاحين يلجئون إلى حفر الأثقاب المائية، للحصول على المياه الجوفية، واستعمال المحركات الميكانيكية التي اشتغلت بالطاقة السائلة والغازية، ثم تطور الاستعمال مؤخرا إلى توظيف الطاقة الشمسية .

وهذا التطور في الاستخدام حول الفلاحة المسقية، من آليات عصرية إلى فلاحة استثمارية، تعدت إنتاجيتها حاجيات المجال الوطني إلى الأسواق الخارجية والدخول مجال المنافسة الدولية .

وهاته الأثقاب المائية التي يتم إنجازها بطرق حديثة، هي في منأى عن الحوادث والأخطار التي يمكن أن تهدد حياة الانسان أو الحيوان من ضيق فوهتها، التي لا تتعدى الاستعمال الآلي والاستخدام الطاقي الآمن للبيئة .


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني