عوالم التخييل عند الروائيين

 

إن كتاباً من أمثال ديكنز وكافكا وبروست هم الذين يبسطون عالمهم المطبوع بطابعهم على مجالات تجاربنا، ذلك أن الروائي يقدم عالماً أكثر مما يقدم قضية، أو حادثاً، أو شخصية، فالروائيون الكبار جميعهم يملكون مثل هذا العالم، ويمكن التعرف إليه بأعتباره يفيض ويتداخل مع العالم التجريبي، وأن كل متميزاً بكونه قائماً بذاته ومفهوماً بذاته .
ذلك أن الأدب عالم مغاير، ألا أن الرواية حالة خاصة ضمن هذا العالم، حالة مرتبطة بالتاريخ، فهذا العالم لكي يكون عالماً يجب أن يوجد في زمان ومكان، وأن تجري فيه أحداث بحسب قانون مرسوم ومعلوم، وبذلك لاتنقل الرواية عالماً من الحياة، بل عالماً شبيهاً بالحياة في أحداثه ومجرياته، فالناس في الحياة يتزاوجون ويتحاربون ويتخاونون ويتلاومون وكذلك في الرواية، إلا أن الرواية تخلو من هذا التسرب البطيء في الزمان مثلما تخلو من الأحساس بإنفلات العالم وسيرهُ البطيء .
أن الهدف الأمثل للروائي أن يخلق عالماً محدداً، وكل تحديد عزل وأستقلال وأنفصال وتخصيص، والعزل الذي نعنيه ليس إنعزالاً عن العالم، بل هو عزل لحالة معينة من حالات الحياة عما عداها من شؤون الفكر والحياة، فأوسع الروايات شمولاً كالحرب والسلم أو أعمقها فكراً وأنشطها تجسيداً كالأخوة كرامازوف هي _ في واقعها الفني _ حالة معزولة عما سواها من شؤون الحياة الأخرى وبقية البشر الآخرين، ومع ذلك فهذا العزل بالذات هو الذي يؤسس علاقة الرواية بالواقع وشبهها بالحياة، فحين ينجح الروائي في إنشاء عالم خاص يكون قد نجح في إنشاء صلة لروايته بالحياة، ذلك أن الأدب تخييل أي أن الفنان أو الأديب يُخَيل لنا، يُوقع في روعنا، ويجعل الأمور تتراءى لنا، أن مانسجهُ من بنات أفكاره وخياله هو صورة عن الواقع، حدثت أو قابلة للحدوث، فالمهم أن تدخل الحادثة في حيز الأحتمال، وهذا ما أتفق عليه الباحثون في شرح كلمة أرسطو عن أن الشعر أكثر نزوعاً فلسفياً من التاريخ، فالتاريخ يعالج ماكان هو محدود في الواقع وماكان من أمور، في حين أن الأدب محدود بالتخييل أي بكل مايجوز أن يقع الأدب تخييلي، أي أنه محاكاة للواقع وللحياة، غير أنها محاكاة منتقاة، فالفنان أو الأديب لا يحاكي أحدهما كل ماتقع عليه عينه من شؤون الحياة بل يقتصر من ذلك على مايخدم هدفه في وحدة التأثير وفي العرض الذي يشبه البرهان على رأي غير منطوق، هو موقفه من الحياة أو نظرته الشاملة إليها، وفي مقدرة الفنان على الانتقاء وتنظيم المواد يُكمن مفعول التخييل، تأثير الأديب في النفس ومكانته من مجمل التجربة الأنسانية، وأعتقد أن تأثير الأدب في النفس _ بأعتباره ناتجاً عن أنتقاء المواد وتنظيمها وتكثيفها _ هو من جملة الأسباب التي دفعت بأفلاطون وكل من يتخوفون من الأثر الضار للفن إلى رفضه، فإذا أخذنا الرواية مثلاً لنا وجدنا أن الروائي وهو يعرض حالة معينة يسوق الأشخاص ويحلل الدوافع ويجند الظروف والصدف كلها بإتجاه واحد، مما هو مقنع ولكن لامثيل له في الحياة الواقعية، لامثيل له في كثافته وتساوقه وإنسجامه وتوارده، إن تأثير الرواية _ وكل الأدب _ مقنع وخطر، وخطره في إقناعه بأمكان إيجاد مثل هذه المشاعر والأحداث، علماً بأن من الصعب أن تجود الحياة على المرء بمثل تلك الكثافة والتنظيم .
ولكي لايكون المقال مطول سأكتفي بنقل أقتباس للناقد البريطاني ريتشاردز ذكره في كتابه ” مبادئ النقد الأدبي ” يقول فيه : ” أنني لو قلت أن معظم الشباب من الطبقات العليا والوسطى يتلقون تعليمهم الخلقي من الروايات التي يقرؤونها لأتُهمت بأنني أبالغ في تأكيد سلطان الروائيين، إذ ستتذكر الأمهات بلا شك ما يقدمنه من دروس عذبه، وسيتذكر الآباء تلك الأمثلة التي يقدمونها لأبنائهم لكي يحتذوها، وسيتذكر المدرسون ما يعطونه لتلاميذهم من نصائح وإرشادات رائعة، أن البلد الذي يكون فيه مثل هؤلاء الأمهات والآباء والمدرسين إنما هو بلد سعيد جداً، ولكن الروائي يزحف بخفة صوب الشبان حتي يصبح أقرب إليهم من آبائهم ومدرسهم بل أقرب إليهم من أمهاتهم، انه المرشد المختار، المعلم الذي تصطفيه الشابة لنفسها، فهي تخلو به وتجلس إليه دون أن تظن أنه يلقنها درساً، وإذا به في هذه الخلوة يعلمها كيف تحب وكيف تستقبل حبيبها حينما يأتي إليها، وإلى أي حد يجب أن ترضيه ولماذا ينبغي لها أن ألا تصارحه وتنغمس مباشرة في هذه النشوة الجديدة “، وأنا مع هذا الروائي في الرأي، خاصة في أمة فقدت سلم القيم في حياتها التربوية ، وصار على الناشئة أن يلتقطوا قيمهم ويرتبوها من السينما ومن وسائل الأعلام ومن الكتب، شرها وخيرها على السواء .
أما كلمة ” تخييل ” فلها قصة طريفة، ذلك أنني حين كنت أٌقرأ كتاب ” نظرية الأدب ” للناقدين الأمريكيين ” أوستين ارين و رينيه ويليك ” أصطدمت في الصفحات الأولى بمصطلح ” Fiction ” ولم أجد له في قواميسنا ولا آثارها النقدية المعاصرة عديلاً ولا كفوءاً بين المصطلحات المستعملة من ” إيهام “، ” أختلاق “، ” توهم “، ” خيال ” … ألخ، وفي قراءة أخرى لكتاب ” تاريخ النقد الأدبي عند العرب ” للأستاذ الدكتور إحسان عباس، وجدته يستعمل مصطلح ” تخييل “، وحين أوغلت في الكتاب وجدت أن الفارابي ينقل عن أرسطو أن الأدب تخييل فقارنت النص العربي مع الترجمة الأنكليزية فتطابق المصطلحان، وتبين لي أن كلمة تخييل دارجة في النقد العربي القديم وأن لم يبقَّ منها الآن إلا قولنا ” خيلَّ لي أنك فعلت كذا وكذا ” .


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني