تثمين الرأسمال البشري: الشباب والتكوين المهني نموذجا

اعداد: يوسف الشفوعي
باحث في التنمية الاجتماعية و الشباب
****************
التنمية كمفهوم شامل عرف حضور قوي في البرامج الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية منذ اواخر تسعينات القرض الماضي، و زاد حضورا مع العهد الجديد كمدخل اساس و محور كل تغيير منشود، و قد واكب اطلاق عملية التنمية مع العهد الجديد اطلاق اوراش كبرى تروم اعطاء المواطن المكانة اللائقة و ضمان الحد الأدنى من الكرامة التي كان يؤمن بها العاهل المغربي منذ توليه عرش اسلافه المنعمين، حيث تم اطلاق ورش الإنصاف و المصالحة، و سياسة القرب و المفهوم الجديد للسلطة و تقرير الخمسينية و اطلاق ورش المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005 . كل تلكم الاوراش و خلال عشيرينية حكم الملك محمد السادس أدت الى اختراق عميق للمجتمع المغربي و ابانت عن نجاعة فائقة في الوقوف على مكامن القوة و مكامن الضعف و الفرص و التحديات التي يمكن استثمارها لتقوية البنية المجتمعية للدولة المغربية. حيث كانت نقطة التلاقي و التقاطع في جميع السياسات العمومية و البرامج التي تم اعتمادها الا و هو العنصر البشري و خصوصا الشباب الذي يشكل حسب آخر الاحصائيات الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط 6 مليون شاب أقل من 24 سنة مما يشكل ثروة بشرية هائلة تتوفر عليها المملكة، و قد وقف الملك محمد السادس تلكم التحديات التي تواجه الشباب المغربي في خطب عديدة منذ توليه العرش، لكن التحول المفصلي بين مرحلتين اساسيتين في العهد الجديد و الانتقال من مفهوم التنمية الى تثمين الرأسمال البشري الذي كان خطابي العرش و ثورة الملك و الشعب و عيد الشباب لسنة 2018 محطة مفصلية لاطلاق المفهوم الجديد لتثمين الرأسمال البشري و الدعوة لبلورة النموذج التنموي الجديد و الذي تطرق اليه العاهل المغربي في خطب عديدة ثم اطلاق المرحلة الثالثة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية و الميثاق الوطني للاستثمار و هيكلة المراكز الجهوية للاستثمار التي عمادها نفس المعنى و المبنى.
و شخَّص جلالة الملك محمد السادس نصره في من خلال المقتطف الاتي ذكره وضعية الشباب الذين هم الثروة الحقيقة للبلاد حيث قال جلالته “… فلا يمكن أن نطلب من شاب القيام بدوره وبواجبه دون تمكينه من الفرص والمؤهلات اللازمة لذلك. علينا أن نقدم له أشياء ملموسة في التعليم والشغل والصحة وغير ذلك. ولكن قبل كل شيء، يجب أن نفتح أمامه باب الثقة والأمل في المستقبل …“
و انتقل الملك محمد السادس في نفس الخطاب الى اعطاء حل عملي و توجيهات مباشرة للحكومة و السلطات العمومية و المنتخبة من خلال وضع التكوين المهني تحت مجهر الاصلاح و اطلاق مرحلة جديدة لتثمين الرأسمال البشري حيث قال جلالته :
“… ورغم المجهودات المبذولة، والأوراش الاقتصادية، والبرامج الاجتماعية المفتوحة، فإن النتائج المحققة، تبقى دون طموحنا في هذا المجال. وهو ما يدفعنا، في سياق نفس الروح والتوجه، الذي حددناه في خطاب العرش، إلى إثارة الانتباه مجددا، وبكل استعجال، إلى إشكالية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقتها بمنظومة التربية والتكوين…. “ و بهذا تم فتح ورش مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل من خلال تعيين ادارة جديدة تروم الوقوف على الإصلاحات الكبرى كورش استراتيجي، و ترأس الملك محمد السادس، يوم فاتح اكتوبر 2018 جلسة عمل خصصت لتأهيل عرض التكوين المهني وتنويع وتثمين المهن وتحديث المناهج البيداغوجية.
ويندرج هذا الاجتماع في سياق تنفيذ الأولويات والتدابير المحددة من طرف جلالة الملك، لاسيما في خطابي العرش وذكرى 20 غشت. ويعكس العناية الملكية السامية الثابتة بقطاع التكوين المهني باعتباره رافعة استراتيجية، ومسارا واعدا لتهيئ الشباب لولوج الشغل والاندماج المهني.
وبالفعل، فقد كان جلالة الملك قد أثار الانتباه مجددا، في خطابه السامي لـ20 غشت الماضي، حول قضية تشغيل الشباب، لاسيما في علاقة مع إشكالية الملاءمة بين التكوين والشغل.
وخلال هذا الاجتماع، أخذ جلالة الملك، حفظه الله، علما بأولى المقترحات والتدابير التي يتعين اتخاذها من طرف القطاعات المعنية، المتعلقة بتنفيذ التوجيهات الملكية السامية. ويتعلق الأمر، على الخصوص، بإعادة هيكلة شعب التكوين المهني، وإحداث جيل جديد من مراكز تكوين وتأهيل الشباب، وإقرار مجلس التوجيه المبكر نحو الشُّعب المهنية، وتطوير التكوين بالتناوب، وتعلم اللغات وكذا النهوض بدعم إحداث المقاولات من طرف الشباب في مجالات تخصصاتهم.
و منذ ذلك اليوم فتح مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل ورش شامل تمخض عنه اطلاق جيل جديد من مؤسسات التكوين المهني اطلق عليها ” مدن المهن و الكفاءات” حيث تم اطلاق ورش بكل جهة من جهات المملكة و بلغت نسبة الاشغال في عدد منها 100٪ ( العيون، الناظور، اكادير) و مابين 70٪ و 90 ٪ في باقي الجهات و ستعتمد على آلية تشاركية في التدبير من خلال الشراكة بين المكتب و مجالس الجهات و القطاع الخاص يروم صياغة احتياجات السوق من كفاءات و تتبعها و توفير الامكانيات البشرية و اللوجيستيكية اللازمة لمواكبة سوق الشغل حسب خريطة جهوية مندمجة.
و من بين ثمار هاته الرؤية الملكية السامية التي اكدت بالملموس النظرة الثاقبة للعاهل المغربي في استشراف آليات ادماج افضل للشباب المغربي و تثمين الرأسمال البشري هو التحول الجذري الذي عرفته منظومة التكوين المهني من خلال جاذبية الاستقطاب و جعل التكوين المهني محرك اساس لدورة التشغيل و مساهم في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية، فالهندسة الجديدة التي اعتمدها التكوين المهني و التي ابانت عن علو كعب الادارة العامة و الاطر التابعة لها و انكباب الاطر الادارية و التكوينية جهويا على التنزيل الامثل كان لها بالغ الاثر حيث استطاع مكتب التكوين المهني ان يكون حاضرا و بقوة خلال الجائحة من خلال ضمان استمرارية التكوين عن بعد و بجودة و تطوير منصات و موارد رقمية دائمة للمتدربين و ازدياد الطلب على الخريجين من اجل الادماج سواء من القطاع العام أو الخاص ثم اخيرا و ليس آخرا الاقبال الشديد خلال السنوات الفارطة و خصوصا هاته السنة على التسجيل في شعب التكوين المهني و الذي قبل عشر سنوات كان في المنظور الشبابي الشعبي انه اختيار للفاشلين دراسيا و المنقطعين و المطرودين، الا ان مع الاصلاحات المتتالية عرف “هجرة” غير مسبوقة للمتفوقين و اصحاب المعدلات العليا اصبح اختيار، حيث في بعض اللوائح تجد معدلات الباكلوريا تصل الى 16 أو اكثر من مختلف مسالك التعليم، مما رفع من عتبة الانتقاء و جعل التنافس على اشده في بعض الشُّعب، مع استمرار استقبال الشباب القادمين من مستويات اقل نتيجة الهضر المدرسي مساهمة من القطاع في احتضان هؤلاء الطاقات و توجيههم نحو مهن تضمن لهم الكرامة و اندماج افضل في المجتمع.
و بذلك يكون مكتب التكوين المهني وإنعاش الشغل قد حقق أولى ثمار السياسة الملكية المتبصرة في تثمين الرأسمال البشري من خلال نجاح تلكم الاستراتيجية و الاستجابة لمتطلبات السوق الاقتصادية من خلال استقطاب الشباب و المساهمة في ادماجهم عبر تكوينات تلائم سوق الشغل و اعتماد آلية جديدة تعتمد على المصاحبة و المواكبة بعد التكوين في مجال المهارات الغير تقنية مثل اعداد السيرة الذاتية و التحضير لاجتياز المباريات و ورشات تفاعلية حول تدبير الوقت و تدبير فضاء العمل و غيرها من المهارات الحياتية المؤهلة لسوق الشغل ، كما ان الخريجين الذين يرغبون في التوجه للتشغيل الذاتي و لديهم حس مقاولاتي و خلق مقاولات خاصة بهم، فانه تم خلق فضاءات و حاضنات الاعمال و المواكبة و المصاحبة مع مختلف الفاعلين في المجال المقاولاتي لانجاح اندماج افضل داخل المنظومة الاجتماعية و الاقتصادية للمغرب الحديث مغرب التحديات لبلورة النموذج التنموي الجديد و استشراف افضل للاجيال الصاعدة.

*************
يوسف الشفوعي
باحث في قضايا التنمية الاجتماعية و الشباب


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني