عن الإبداع والأيديولوجيا والملكية البرلمانية

مع تواري المشرق العربي افي أغوار الظلامية والتقليدانية والحروب الطائفية، وغدى اكثر من أي مرحلة سابقة مقبلا على حقبة اشد اكفهرارا وسوداوية؛ بدأ يلمع نجم المغرب كجزيرة متفردة بنمط خاص. يمكن لنا أن نقول بأن النهج الليبرالي المعتدل الذي تسير في دربه المملكة، مستصحبة تقاليدها المرعية الى عوالم الإبداع والتجديد، ومتغلبة على الإرادات الرجعية التي تربعت على عرش السلطة في العالم الاسلامي من الجزاير الى باكستان؛ مكنها من تجنب الأسوء رغم المحاولات المتتالية لفرض الانساق المشرقية، سواء الناصرية والبعثية في الزمن الشيوعي، أو الاسلاموية الاخوانية في الزمن الراهن الذي يكرس لمنهج فكري يقيم جدارا ذهنيا ووجدانيا يشبه في راديكاليته وفصاليته جدار برلين، الذي لم يعزل فقط جغرافيا بين برلين شرقية وأخرى غربية ولكن وضع سياجا ايديولوجيا صارما لابقاء الافراد داخل سجن المثاليات الشيوعية، ولم يكن صدفة اختيار نيكيتا خوروشف ايّام المهرجان السينمائي الدولي في برلين الغربية لإعطاء اوامره بالشروع في بناء الجدار، الفن كان دائما مستفزاً للإيديولوجيا.

الطابع البوهيمي والتعددي في المجتمع يحول دون تشكل نواة لثورة إسلامية على النسق الإيراني، رأي عام متعدد المزاجات الحضارية والاختيارات يفت في عضد التحشيد الشعبوي، الانفتاح الثقافي وأريحية السلطة يقوض المشاعر العدائية التي تحاول قوى الايديولوجيا استنباتها واستثمارها في صناعة براميل البارود القابلة للانفجار في الوقت المناسب. أظهرت أزمة الحجاب والازدواجية النفعية، وجود مقاومة قوية لتيار الاسلام السياسي في المغرب بالقياس مع المزاج المشرقي المتعاطف بل والمتحمس مع دعاوى الاسلاميين رغم فظاعاتهم على المستوى الانساني وبؤسهم على مستوى البديل السياسي الذي يطرحونه.

أنواع الفنون والموسيقى الرائجة في المغرب لا يمكن مقارنتها بالانتاج المشرقي الذي بدى منكفئا على ذاته أكثر من أي وقت مضى، نظرة بسيطة إلى الموسيقى المصرية او الشامية او الخليجية سيجدها لم تبرح إيقاعات الدبكة وأنغام الريف اللبناني وألحان عصرية من وحي العشوائيات التي باتت تشكل ثقافة الشعب المصري المحتقرة للفن والموسيقى والآداب الانسانية بشكل عام، في الوقت الذي تكتسح فيه الاغنية المغربية بتشكيلاتها الشعبية والطربية والأمازيغية وتلك ذات الطابع الغربي الذائقة المشرقية المتعطشة للتجديد، كاسرة حاجز اللهجة الذي ظل لعقود محط استهزاء بل واحتقار الأذن القومجية المتعالية بلكنتها. 

عندما تمنح مبدعا مثل ريدوان حريته، يصنع لك موسيقى يتهافت عليها نجوم البوب العالميين، عبد القادر راشدي عندما داعبته نسائم الحرية رقص رقصة الأطلس التي اتخذتها بعض الإذاعات العربية نغما قوميا، من كان يتصور أن قطعة من ألحان أغنية “هادي كدبة باينة” لنجاة اعتابو ستتخذها احدى مجموعات البوب الغربية خلفية لحنية لإحدى أشهر أغانيها، حيث أطلقت الفرقة البريطانية The Chemical Brothers في العام 2005 أغنية أسمتها Galvanize، انتشرت كالنار في الهشيم، واحتلت المراتب الأولى في قائمة الأغاني في المملكة المتحدة آنذاك، ولاشك أن كثيرا من المهاجرين المغاربة في تلك الفترة كانوا يتساءلون أين سمعنا هذا اللحن؟.أين الموسيقار عبد الهادي بلخياط صاحب روائع قطار الحياة، القمر الأحمر، يا بنت الناس، البوهالي، ما تاقشي بيا… لقد أقنعته الايديولوجيا بأن الفن حرام ونجاسة، والعود من مزامير الشيطان. انتشى الاسلاميون بقدرتهم على النكاية بأجيال تشكل وجدانها حول أغاني الأيقونة، و إطفاء شعلة فنية وتاريخ من العطاء بنفخة واحدة.

هناك اختيار في المغرب، اختيار من أعلى مستويات السلطة على نبذ الأحادية والإقصاء والتنمّر الأيديولوجي، ينعكس على المجتمع وقدرته على تحرير الإرادة وتنمية الخيال والابداع، اختيار ينعكس ايضا على الاقتصاد وديناميكية القطاع الخاص في خلق الثروة بمعزل عن منطق التواكل على الثروات الطبيعية التي سيأتي يوم وتنفد، طال بها الزمن أو قصر. دون اتاحة أكبر قدر من الحرية؛ لم نكن لنرى هذه الثورة في مجال التيكستيل التي راكمت حولها كوكبة من المصممين المغاربة المصرّين على الانتقال بالزي المغربي  التقليدي الى مستويات الصناعات القومية الكبرى، الامر نفسه يتكرر مع الثقافة الغذائية المغربية التي ارتقت بالأطباق المغربية الأصيلة الى مجال الحداثة شكلا ومضمونا.

الليبرالية التنافسية هي أساس الرفاه والازدهار، الايديولوجيا تقتل القرائح وتحاصر الخيال في فضاء مشلول عمليا ووجدانيا، تحارب النظريات العلمية وتثبط الجهود الرامية لإصلاح التعليم. ورغم أن المعارضة الاسلاموية تملأ الأجواء زعاقا حول فشل النموذج التنموي فإنها لا تفعل ذلك إلا لكونها تريد الرجوع بالمجتمع الى تعليم الكتاتيب واقتصاد الصدقات. هي تملك الانتقاد الدائم وتعميم الخطاب التشائمي المنحاز الى رغبتها باسقاط النظام، لكنها لا تملك على الإطلاق أي رؤية استراتيجية يمكن أن تقدمها بين يدي دعواها، لأنها أساساً رافضة لأي تعامل مادي عقلاني مع الأزمات، وتنطلق من نظرة تكفيرية للحداثة ومنطق اشتغالها، وتحسب ان مجرد اعتلائها لسدة الحكم ورفعها لشعار “الاسلام هو الحل” كاف لكي تحقق به المجتمع المثالي المنشود، معولة على تدخل فوق العادة للإرادة الإلهية لتمكينها عسكريا واقتصاديا لوراثة الأرض.

سيطرة الدولة على الحقل الديني مكنها نسبيا من تعميم جو التسامح والتعايش وتخفيف حدة التوترات الايديولوجية ومحاصرة الخطاب الذي يحاول الافتئات على موسسة إمارة المومنين واستعداء المواطنين على المجتمع، رغم وجود التيارات الدينية والدعوية الموازية التي تحاول منازعة الأوقاف، وذلك يعود بالأساس الى وجود تيار سياسي يرأس الحكومة يوفر لها الدعم ويمكنها من موارد مالية مهمة، الى جانب الدعم المالي والمعنوي والإعلامي الذي تتلقاه من مشيخات الخليج، كثير منها يشتغل من خلال المساجد الالكترونية والفضائيات الدعوية. الديموقراطية الشاملة  كما يحلم بها المثاليون الساذجون لا يمكن إلا أن تمسخنا إلى مجتمع بدائي ثيوقراطي دولة بوليسية وعظية يتجسس بعض أفرادها على البعض الآخر، وتحاصر فيه الإرادة الحرة والفردانية الخلاقة.

كيف يمكن لنا ان نمنح سلطة شاملة لبهلوان إسلاموي مثل ابن كيران؟ اذا كان هذا سلوكه الأرعن وتلك تصريحاته الصبيانية على وسائل الاعلام تشير الى درجة النمو العقلي وضيق الرؤية عند نخبة الاسلاميين فكيف كانوا سيديرون الديبلوماسية المغربية في شأن حيوي وجوهري مثل ملف الصحراء على سبيل المثال، أو بخصوص العلاقات الثنائية مع الجزائر، أو في أزمة إقليمية مثل أزمة دول الخليج، أو في قرار مصيري مثل تعويم الدرهم؟ هل يؤمنون باقتصاد الأبناك والنظام المالي العالمي؟ ألا يحرمونها التعاملات البنكية؟ هل كنّا نتصور أن الاسلاميين كانوا سيتقدمون بملف للترشيح للمونديال وهم يَرَوْن ان شعوب الارض كافرة ينبغي الجهاد فيها؟ وماذا عن قطاع السياحة؟ ألا يبنون جوهر رؤيتهم للعالم على المفاصلة بين دار الحرب ودار الاسلام؟ وماذا عن دوائر المخابرات؟ هل يمكن المجازفة باطلاعهم على الملفات الحساسة للأمن القومي؟ هل يمكن الوثوق بهم في اتخاذ قرارات بشأن مكافحة الارهاب في حين هم أنفسهم يمثلون خطرا ارهابيا داهما؟… 

إن هناك أمورا كثيرة ينبغي اعتبارها قبل أن نكتب المعلقات السياسية في التشبيب بملكية برلمانية قد تبدو رنانة واعدة للوهلة الاولى، لكننا عندما نتعمق في عواقبها ونستوفي آثارها الكارثية المتوقعة لا يسعنا إلا أن نطرح الفكرة جملة وتفصيلا. 

 


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني