زمن احتضار …

(قصة قصيرة)
الحسين بوخرطة
مهندس رئيس ممتاز من المملكة المغربية
متخصص في الإحصاء والاقتصاد والتهيئة والتعمير
باحث في التنمية الترابية
في ليلة غاشمة لا ترحم، كانت الرياح تعصف بالأشجار والأمطار تتساقط بغزارة، عندما سمع سلام ذلك الصوت الغريب والمهيب في السماء. كان الصوت يردد الكلمات ذاتها ثلاث مرات أو أكثر: “اهتم بالقرب والقريب أولاً قبل فوات الأوان”. لم يتذكر سلام عدد مرات تكرار العبارة بسبب شدة الصدمة والذهول والخوف من المجهول. اكتسح وجدانه شعور غريب امتزج فيه الهلع والقلق. شعر أن إحساسه بفرضية استمرار الحياة أرضا تتضاءل بسرعة غير معهودة. فكر ودبر بسرعة لأن الوضع الذي وجد فيه لا يرحم ولا يتيح إمكانية التركيز في التفكير، ثم أقر بوعي تام أن الرسالة موجهة له شخصيًا، وعليه أن لا يسقط نفسه في حالة التيه والتفاهة. أبحر في سهاد عميق قاده لبرزخ فضائي وكأنه مشيد بين الحياة والموت. تعسف بكل ما لديه من قوة ليتملص من وضعية الهذيان المحتمل. ركز بوجدانه على رجليه الواطئتين على رخام غرفة نومه، فنهر نفسه قائلا: “أنا لازلت موجودا على الأرض”. حينئذ خرج مهرولًا خارج منزله. لم يكن يدري ماذا يفعل سوى أن يذهب إلى جاره الشيخ عبد المحفوظ. أسر لنفسه في طريقه : “هذا الرجل منفذي المعهود في حالات الضيق والاضطراب. إنه مصدر حكمة لا تضاهى في موطننا. أنا لا أطمئن إلا لهذا الرجل الوقور المؤمن بالوجود وغاياته”.
عندما وصل إلى الباب، دقّه بشدة. فتح الشيخ عبد المحفوظ بهدوء تام، كأنما لم يكن هناك عاصفة في الخارج. نظر إلى سلام بهدوء وقال له : “أهلًا يا سلام، ماذا هنالك؟”. لكن سلام، الذي كان في حالة من الارتباك والذعر، بدأ يتحدث كلمات متقطعة وهو يحاول التنفس بعمق: “م… م… هذا النداء… أيها الجار الكريم…”.
ابتسم الشيخ عبد المحفوظ ابتسامة ماكرة، وقال: “أنا أضع قطعًا سميكة من القطن في أذني منذ شهور لكي لا أسمع، وألوك العلك نهارًا لكي لا أتكلم”.
صمت سلام للحظة، شعر بغرابة الموقف، وسحب نفسه قليلاً إلى الوراء. كان قد أدرك شيئًا مروعًا، لكنه لم يكن مستعدًا للاعتراف به بعد: “هل من المحتمل أن نعيش يومًا في موطن أصم وأبكم، وفي عالم نجهل مصيره؟”.
تراجع إلى الوراء مستحضرا حكمة الشيخ عبد المحفوظ وخبرته. غرق مجددا في تفكير عميق، فسأل نفسه : “هل أصبح العالم بالفعل مكانًا لا يسمع فيه الناس صرخات الآخرين؟ وهل كانت تلك الرسالة التي سمعتها حقًا دعوة للانتباه إلى أولئك الذين أصبحوا جزءًا من خلفية الحياة اليومية؟ أو كانت مجرد صدى في سماء ضبابية، لا يحمل سوى سراب؟”.
تهاوى جسمه بالكامل على ركبتيه من شدة الحزن وضغط معاناة امراضه المزمنة. شد رأسه المكلوم بكفيه بقوة، ثم لفظ آخر عبارات وجوده “ما كنت أعرفه فقط هو أن في هذا العالم، قد لا تكون العاصفة هي أخطر شيء… لكن من حقي أن أتساءل أين إنسان رسالات محمد وعيسى وموسى صلى الله عليهم وسلم؟. قصاص السماء بيننا الذي لا نعلم إلا الفتات من حقائقه، فوداعا إذن يا أهل الأرض … لكن أين المفر المنصف؟”.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني