ماذا بعد تلقيح القضاة من الأنفلونزا؟

خصصت المؤسسة المحمدية للأعمال الاجتماعية للقضاة وموظفي وزارة العدل والحريات وموظفي المندوبية العامة لإدارة السجون، الأسبوع الماضي، حملة طبية لتلقيح القضاة والموظفين ضد مرض الأنفلونوزا، تحت إشراف الوزارة الوصية.

وقد كان موقع “كواليس اليوم” سباقا إلى إثارة خبر هذه الحملة، صباح هذا اليوم (الاثنين) من خلال مقال اخترنا له عنوان “خالد المختاري يلقح 400 قاض وموظف ضد مرض الأنفلونزا مجانيا”. وهي حملة، للإشارة، أثارت استحسان القضاة والموظفين الذين استفادوا منها، نظرا لرمزيتها الجميلة.

لكن وبمجرد نشر هذه الخبر، حتى توالت التعليقات والردود، ولعل أغربها ما ورد في تعليق طريف، من توقيع “قاض مختل عقليا”، حسب تعبير صاحب التعليق.

وقد تساءل هذا القارئ بلهجة ساخرة، لكنها تنطوي على حقيقة مرة، قائلا “ولما لا يكمل السيد المختاري أجره ويتعاقد مع أطباء مختصين في الأمراض العقلية لكي يعطوا لكل قاض شهادة السلامة النفسية قبل وبعد عقد الجلسة، حتى تضمن جودة الأحكام وخلوها من أي عائق من عوائق الأهلية مثل الجنون؟”.

سؤال “القاضي المختل” يفتح الباب أمام مفارقة، وهي اهتمام وزارة العدل والحريات بتلقيح القضاة ضد الأنفلونزا، المرض الموسمي البسيط الذي يمكن الاستشفاء منه بسهولة، عوض تلقيحهم بـ”أمصال” و”مضادات حيوية” أخرى، في إطار جهودها الرامية إلى إصلاح القضاء.

لعل صاحب التعليق كان يقصد الأخطاء التي ترتكبها هيآت قضائية، أو التجاوزات حتى، لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو ماذا بعد لقاح الأنفلونزا؟ هل ستنظم وزارة العدل والحريات حملة أخرى لتلقيح بعض القضاة من علل أخرى أكثر حساسية وأكثر ضررا، أم أنها ستقف عند هذا الحد؟

القضاة المغاربة في حاجة إلى تلقيح آخر، وهو تلقيح اجتماعي، برفع الأجور لتحصين، بعضهم وليس كلهم طبعا، من أي تأثيرات خارجية محتملة تحت أي مسمى، وتوسيع هامش استقلاليتهم، والاهتمام بمكانتهم الاعتبارية في المجتمع. ثم هناك تلقيح قانوني، أي ترصد الهفوات القانونية التي قد يقع فيها البعض، عن غير قصد.

ألم تنتبه وزارة العدل والحريات، وهي التي لا تفتأ عن الحديث عن جهودها ومقارباتها لإصلاح منظومة العدالة عامة، إلى تناقض خطير يقع في المحاكم، وهو في الوقت الذي تدعو فيه الوزارة إلى الحد من ظاهرة تراكم ملفات الاعتقال الاحتياطي، لا يتردد بعض ممثلي النيابات العامة الاستئنافية والابتدائية في استئناف قرارات الإفراج الصادرة عن قضاة التحقيق؟ ألا تعلم أن مثل هذه المواقف تعارض توجهات الدولة وسياستها الجنائية العامة؟

والخطير أن عددا من ممثلي النيابات العامة يستأنفون كل شيء، ما يجعل منهم مجرد “ماكينة” لإنتاج قرارات الاستئناف، دونما تأني في ما إذا كان موقفهم مبنيا على معطيات مناسبة للقرار أم لا، حتى أن النيابة العامة نسيت دورها الحقيقي، المتمثل في الانتصاب إلى جانب الحق العام، بغض النظر عما إذا كان صاحب هذا الحق ضحية أم ماثلا في قفص الاتهام. وبهذا تكون هذه النيابة قد أعطت لسلطتها مفهوم “التغريق”، وليس الدفاع عن صاحب الحق، مهما كان موقعه.

لقد سبق لأحد المحامين، في ندوة نظمتها رئاسة وزارة العدل قبل أسابيع، أن لخص هذه المشكلة بشكل دقيق، عندما أكد أن النيابة العامة تستأنف كل قرار صادر عن قضاة التحقيق بالإفراج، وزاد قائلا أنه من غير المستبعد أن يسمع في يوما ما أن نائبا قد استأنف حكما بالإعدام، علما أن وكلاء عامين، في مختلف محاكم البلاد، يستأنفون أحكام المؤبد، وهذا ما يتنافى مرة أخرى مع توجهات الدولة نحو إلغاء عقوبة الإعدام، لأن الذي يستأنف حكما بالمؤبد، فهو يبحث عن أقصى عقوبة بعد السجن مدى الحياة، وهي الإعدام.

محمد البودالي


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني