الدكتور ناجي يكتب لـ”كواليس اليوم”: قرار القصر بتعيين الحموشي جاء رحمة وبردا وسلاما على الأمة

د. محمد ناجي/ أستاذ جامعي متقاعد
لقد كان استقبال المواطنين لتعيين الأستاذ عبد اللطيف الحموشي على رأس مديرية الأمن الوطني واحتفاظه في نفس الوقت برئاسة أخطر جهاز في الدولة، الجهاز الساهر على أمنها الداخلي من أي تهديد إرهابي أو عمل تخريبي؛ أو اختراق تجسسي؛ كان استقبال الناس لهذا الخبر مفرحا ومبشرا، كاستقبالهم لخبر هطول أمطار الرحمة بعد جفاف طويل قاس وانقطاع الغيث لسنوات عجاف .. فقد أكل جفافُ ما قبل الحموشي اللحم وامتص العظم .. كان هذا الخبر بردا وسلاما على الشعب، وما الأخبار التي تخرج من القصر الملكي العامر بدون اقتراح لا من رئيس حكومة ولا من هذه الجهة أو تلك، إلا وتكون كلها رحمة وبردا وسلاما على الأمة.

وهذا التعيين لرجل في فورة عطائه وذروة نشاطه، لن يكتفي فقط بضخ دماء جديدة في هذا المرفق الحيوي الذي كان في حاجة إلى جهاز الدياليز كل يوم إذا أريد له أن يبقى قادرا على التنفس والحراك ؛ فقد جاء التعيين الملكي باللقاح الناجع النهائي لمحاصرة الداء، وتمكين الجسم من المناعة الذاتية الداخلية ضد تسرب أي فيروس فتاك إلى خلاياه..
لقد أبانت المديرية العامة السابقة للأمن الوطني ـ مع احترامنا للعاملين المجدين فيها، وتقديرنا للمواظبين النزهاء من أفرادها ـ عن ترهل مزمن، وعن عدم القدرة على صعود الجبال لاقتناص الثعالب من قممها، وعلى نقص فظيع في مهارة الغوص إلى الأعماق لاكتشاف ما تخبئه من براميل متفجرة تحت سطح مياهها الراكدة المغرية بهدوئها وسكونها.. ولكنها في حقيقة أمرها ليست سوى مسألة فرصة تأتي، ولحظة تشتعل ..
الأستاذ عبد اللطيف الحموشي الرجل الهادئ الصامت الذي يربط الليل بالنهار والنهار بالليل ساهرا على أمن الوطن، ليس رجلَ لسان ومهاترات برلمانية ولقطات تلفزيونية لتصوير مشاهد عادية جدا تدخل في صميم عمل رجال الأمن أو الجمارك أو غيرها باحتجاز شاحنة محملة بالحشيش، أو القبض على عصابة كانت تقطع الطريق على الناس، أو محاصرة مجرم يشرمل النساء بمديته ؛ مما لا يعتبر في الميدان الامني خبرا ذا إضافة نوعية للمواطنين ما دامت تلك هي مهمتهم ، وعلى أساسها يتقاضون أجورهم؛ والذي يقرأ منه العقلاء أن وقوفهم أمام كاميرات القنوات الرسمية ليعلنوا عن مداهمة منزل للدعارة، أو معمل في مرآب لتخمير ماء الحياة بدون رخصة؛ إنما يدل على فقر في تلك المنجزات، وعلى ضعف في الأداء، كالتلميذ المتكاسل الذي عندما يحصل على معدل في مادة ما بالصدفة، فإن ورقة اختبار تلك المادة لا تفارق جيبه، يعرضها أينما حل وارتحل بكل اعتزاز وافتخار، ليغطي بها أصفاره في المواد الأخرى ..
إن الحموشي لا يشتغل بلسانه، وقد قالوا قديما : “الصمت لغة الحكماء”؛؛ ولكنه يشتغل بيديه وبقلبه، وعيناه مفتحتان لـتَـرَصُّـدِ أي أثر لحافر مشبوه على التراب الوطني؛ في مراقبة حثيثة لمواطئ الأقدام، وآثار النعال لدواعش أو إرهابيين أو مخربين أو انفصاليين أو جواسيس .. وما أثقلها مسؤولية، وما أوعرها مهمة في وطن تتميز تربته بتـنوع تضاريسها وأشكالها من رملية إلى صخرية إلى طينية إلى سهلية إلى جبلية إلى غيرها.. فكيف لك أن تميز أثر الحافر الغريب في كلها جميعا..
وليست يداه وقلبه وعيناه هي كل أدواته في عمله وسهره الدؤوب؛ بل هناك الأنف الـشَّـمَّام، و ما أدراك ما الأنف الشمام ؛ هو هبة من الله سبحانه وتعالى قل أن يجود بها على خلقه إلا لمن أدرك بسر علمه أنه سينفع بها الناس، حتى قيل بأن من أوتي أنفا شماما خير ممن أوتي صوتا رخيما؛؛ فالأنف الشمام عملة ذهبية نادرة في كل زمان ومكان.. وعندنا في المغرب الأستاذ الحموشي الذي مَـنَّ الله عليه بحاسة سادسة، هي بمثابة جهاز تعجز عن صنعه أعظم مختبرات العالم، ولو أعطيت إمكانيات أبناك الدنيا كلها، وأضعاف ما يختزنه صندوق نقدها الدولي من أموال الشعوب المقهورة المنهوبة بأرقامها الفلكية..
لقد أثبت الأستاذ الحموشي أنه رجل يشم رائحة النسمة غير العادية من أقصى شمال المغرب إلى أقصى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وخارج التراب الوطني أيضا، بشهادة الأوسمة التشريفية والتقديرية التي وُشِّـح بها صدره من دول متقدمة علميا وتقنيا واستخباراتيا، إقرارا منها بـشَـمِّـه الذي دَلَّـهُـم على روائح مشبوهة، أنقذ العِـلـمُ المـبَـكِّـر بها أوطانهم، وأمَّـنَ التحقق من صحتها مواطنيهم.
وليس هذا كل ما يميز رئيس جهاز الديستي والأمن في المغرب
بل هناك ما هو أبلغ وأجدى : العقل المفكر القادر على الموازنة والتمييز وتحليل الموقف بالسرعة اللازمة، واتخاذ القرار المناسب في اللحظة المناسبة ..
إن أي كفاءة أو موهبة أو طاقة كيفما كان نوعها، لا يكون لها جَـدَاء ولا نفع في عملها إذا لم تكن مُـسَـخـرة وموجهة بعقل مدبر؛ مقرر ومنفذ بحكمة وسرعة وفعالية. وهذه أيضا من خصائص الرجل .
إنني منذ الإعلان عن تعيين الأستاذ الحموشي على رأس جهاز الأمن الوطني، كنت مدركا أنه سوف يُـحـدِث تغييرات جوهرية على هذا المرفق الوطني الحساس، ولذلك لم أفاجأ عندما قرأت في وسائل الإعلام عن إقدامه على القيام «بدراسة استراتيجية كاملة لتحديث جهاز الأمن» والعمل على «توفير وسائل فعالة لتدخلاته» «وزرع الجانب الحقوقي في المنظومة الأمنية وفي مخافر الشرطة بالمدن الكبرى والنائية»، كأولوية من أولويات تكوين عناصر هذا الجهاز، وهي ليست فكرة جديدة ، فلطالما نادى بها كثير من الحقوقيين والسياسيين ؛ ولكنهم لم يجدوا لدى المسؤولين السابقين ولو أذنا واحدة صاغية من أذني الرأس الكبيرة. فلما جاء هذا الرجل بادر من تلقاء نفسه إلى هذا الإجراء الذي تدل سرعة الإقدام عليه على قناعة الرجل بأهميته وجدواه
كل هذا لم يستوقفني ؛ فهو منتظر منه، ومنتظرمنه أكثر منه ..
وإنما الذي استوقفني وأثارني هو خبر عزم هذا الرجل على تغيير الزي الرسمي لرجال الأمن ؛ كإجراء آخر من إجراءاته الإصلاحية الجادة والموفقة إن شاء الله.
فهذا الإجراء لا يمكن أن يكون فقط كذلك الإجراء الذي يقوم به وزراؤنا الأشاوس، ذوي الأحاسيس الرهيفة والأذواق المتباينة، من تغيير لأثاث مكاتبهم كلما تسلموا وزارة جديدة، حتى ولو كان الواحد منهم وزيرا داخل الحكومة وانتقل من وزارة إلى وزارة، فإنه يغير المكتب والكرسي والمزهريات والرفوف والزرابي واللوحات الزيتية والكاتبة الخاصة وما إلى ذلك، ونفس الشيء بالنسبة إلى السكن الوظيفي الذي تمتعه به الدولة، يغيره من غرفة النوم وملاعق المطبخ إلى مقص البستاني وزليج عتبة باب الفيلا ..
الأستاذ الحموشي ليس من هذا الصنف ، فمن غير الممكن أن يفكر في تغيير الزي الرسمي لرجال الامن عبثا، وهدرا للمال فيما لا ينفع منفعة وظيفية، مع ما يتكلفه ذلك من ميزانية باهظة؛ خاصة وأن رجال الأمن يغيرون زيهم مرتين في السنة، زيَّ فصلي الشتاء والربيع، وزيَّ فصلي الصيف والخريف..
إذن لماذا يريد أن يغير الزي الرسمي لرجال الأمن ؟
وكيف يمكن أن يعتبر هذا من وسيلة من وسائل إصلاح هذا الجهاز؟
لقد فكرت طويلا، حتى انتهى بي التفكير إلى فكرة طاحت علي من السماء، ربما تكون هي نفس الفكرة التي طاحت على السيد المدير الجديد بإلهام من الله سبحانه وتعالى ، وهو الرجل المؤمن التقي، المواظب على صلاته، والمحافظ على حسن عقيدته ..
هذه الفكرة، سأقولها من باب الدعابة؛ فإن صادفت صوابا، فهنيئا ؛ وإن لم تكن صائبة، فلم نخسر شيئا .
ربما يكون الجديدُ في الزي الرسمي المرتقب لرجال الشرطة في المغرب، هو أن تكون بذلة رجل الأمن « بذلة بلا جيوب » ( Uniforme sans poches )، لأن رجل الأمن وهو في عمله لا يحتاج إلى جيب، فالجيب ليس له مهمة وظيفية في عمل رجل الامن؛ لأن كل ما يحتاج إليه هو زي رسمي موحد يميزه عن المواطنين وعن غيره ممن يرتدون زيا رسميا أثناء أداء مهمتهم، من درك وجيش وقوات مساعدة وجمارك وغيرها. وكل ما يحتاجه رجل الأمن لأداء مهمته هو سلاحه وأصفاده الوظيفية ( menottes ) ، وهذه كلها لا تحتاج إلى جيب لأنها تعلق في حزامه . إذن ما حاجة رجل الأمن إلى جيوب في زيه الوظيفي؟
إن هذا الإجراء ـ إن كان كما تصورته ـ سـيُـعْـفيـنا من كثرة الفيديوهات والأشرطة التي تطلع علينا بين الحين والحين، والتي يشاهد فيها العالمُ كله رجلَ الأمن المغربي وهو يدخل يده في جيبه بمجرد أن يصافح السائق أو يفسح له الطريق.
ماذا كانت تفعل تلك اليد في جيبه؟
ولماذا بعد كل مصافحة او مغادرة السائق لعين المكان يقوم بتلك الحركة؟
هذا المشهد سئمه المواطنون وضجوا منه؛ ولعل عبقرية المدير العام الجديد لأمننا الوطني، وعقله المدبر اهتدى إلى أبسط حل لهذه المعضلة المزمنة التي عُـمِّـرت أزيد من نصف قرن، لم يجد لها أحد حلا ناجعا، ولا وسيلة فعالة للقضاء عليها.
إنها أبسط وسيلة وأقلها كلفة ، وأكثرها نجاعة : الاستغناء عن ذلك الجيب المثير للشبهة، لتتوقف تلك الحركة المريبة .
أليست هذه عبقرية؛ إن كان صحيحا ما قرأته في هذا الإجراء الوقائي الناجع البسيط ؟
[email protected]


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني