بقلم :عبد الحكيم العياط
في مشهد يجسد الانفتاح الحقيقي بين الجامعة ومؤسسات الدولة، نظّم الأستاذ محمد زين الدين، أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية ورئيس شعبة القانون العام بنفس الكلية، زيارة علمية وتأطيرية لفائدة طلبة الإجازة و الماستر في مسار “التميز في الدراسات العليا في العلوم السياسية”، إلى معرض الأبواب المفتوحة للأمن الوطني في دورته السادسة، المنظمة بمدينة الجديدة من 16 إلى 21 ماي 2025.
وقد تميزت هذه الزيارة التي تندرج ضمن الأنشطة الموازية لمسلك التميز، بمشاركة نخبة من الطلبة المهتمين بالسياسات العمومية، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، والحوكمة الأمنية. إذ شكلت المناسبة فرصة فريدة للاطلاع الميداني على تطور المؤسسة الأمنية المغربية، من حيث بنيتها التنظيمية، واختصاصاتها المتعددة، وكذا انفتاحها على المواطنين من خلال هذا الحدث السنوي البارز.
خلال الجولة داخل المعرض، أولى طلبة الإجازة والماستر اهتمامًا خاصًا برواق خلايا التكفل بالنساء ضحايا العنف، والذي يجسد البعد الإنساني والاجتماعي في عمل المؤسسة الأمنية. فقد قدمت أطر الشرطة العاملة ضمن هذه الخلايا شروحات دقيقة حول طريقة استقبال الضحايا داخل فضاءات آمنة تراعي الخصوصية والكرامة، وكذا حول التنسيق مع النيابة العامة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية. وتوقفت الزيارة عند الجهود المبذولة لتعزيز ثقة النساء المعنفات في الجهاز الأمني، من خلال التكوين المستمر للمكلفين بالاستقبال، وتخصيص عناصر نسائية مؤهلة للتعامل مع مثل هذه الحالات النفسية والاجتماعية المعقدة. وقد اعتبر الطلبة أن هذا العمل يجسد تحولا في مقاربة الأمن، من مجرد حفظ للنظام إلى مساهمة فعلية في الإنصاف الاجتماعي.
كما أثار رواق “طفلي مختفي” اهتمامًا بالغًا من قبل الزوار، خاصة الطلبة المهتمين بقضايا الطفولة والسياسات الاجتماعية. ويهدف هذا الفضاء إلى التعريف بآليات التبليغ والتدخل السريع في حالات اختفاء الأطفال، وتقديم إرشادات عملية للأسر حول الوقاية والتواصل الفعال مع السلطات. وقد أبرز مسؤولو الرواق أن المغرب يعتمد اليوم على منظومة متكاملة للتدخل في هذا النوع من القضايا، تجمع بين المعطيات الرقمية، والتنسيق الميداني، والدعم النفسي للأسرة. وقد شكل هذا الرواق مدخلًا لتحفيز النقاش داخل المجموعة حول مدى وعي الأسر المغربية بحقوق الطفل، ودور الدولة في مواكبة الأزمات الأسرية والوقاية من الاختفاء أو الاستغلال.
منذ اللحظات الأولى للدخول إلى مركز المعارض محمد السادس بمدينة الجديدة، انبهر الطلبة بحجم التنظيم والتنوع في الأروقة، مما يدل على مجهود مؤسساتي كبير لتقريب المرفق الأمني من المواطن، بل وتحويله إلى موضوع للنقاش العمومي والتفاعل المدني. وقد حضر الوفد الجامعي عدة عروض ميدانية حية، منها محاكاة تدخل أمني لتحرير رهائن، استُعملت فيه تقنيات متقدمة ومناهج تدخل مدروسة، ما أتاح للطلبة فرصة التفكير في العلاقة بين الأمن والديمقراطية، ودور الكفاءة الأمنية في صون الاستقرار ضمن مناخ الحقوق والحريات.
الرواق الخاص بالشرطة العلمية والتقنية شدّ اهتمام الجميع، حيث تم الاطلاع على الإمكانيات المتوفرة بالمختبر الوطني للشرطة العلمية بالدار البيضاء، والذي تلقى خلال السنة الجارية أكثر من 21,000 طلب خبرة علمية، من ضمنها أزيد من 17,500 طلب تحليل للحمض النووي، في تطور سنوي يؤشر على تعاظم دور التقنية في العمل الأمني. وتفاعل الطلبة، خاصة المنتمين لمسلك “السياسات الجنائية والحكامة الأمنية”، مع الشروحات التي قدمها مسؤولو الرواق، والذين أبرزوا كيف يتم احترام المعايير القانونية والأخلاقية في استخدام هذه الوسائل.
خلال الزيارة، توقف طلبة الإجازة والماستر بمسار التميز في الدراسات العليا في العلوم السياسية عند رواق مديرية مراقبة التراب الوطني، وهو رواق استثنائي يفتح نوافذ نادرة على جهاز معروف تاريخيًا بالاشتغال في الظل. وقد حرص المشرفون على الرواق على تقديم شروحات مبسطة حول مهام المديرية واختصاصاتها في مجال الاستباق ومكافحة التهديدات الإرهابية وشبكات التجسس. وأتيحت للطلبة فرصة الاطلاع على الوسائل التكنولوجية الحديثة التي تعتمدها المديرية في الرصد والتحليل، بالإضافة إلى مساهمتها في دعم باقي المصالح الأمنية في إطار التنسيق الوطني والدولي. هذه الزيارة مكنت الطلبة من التفكير في مفهوم “الأمن الاستراتيجي” ودوره في حماية سيادة الدولة واستقرارها، كما فتحت نقاشًا معمقًا داخل المجموعة حول حدود الشفافية في تدبير الأجهزة الحساسة وعلاقتها بالرقابة الديمقراطية.
اختُتمت الزيارة العلمية بدخول صالة العروض، حيث تابع الطلبة عروضًا حية قدمتها مختلف الوحدات الأمنية، أبرزت تقنيات التدخل، وأساليب الإنقاذ، ومحاكاة لحالات ميدانية معقدة. شكلت هذه العروض لحظة تفاعلية مميزة مكنت الطلبة من معاينة مهنية الأجهزة الأمنية عن قرب وفهم دينامية عملها في الميدان.
زيارة الطلبة كانت أيضًا مناسبة للتفكير في تحولات صورة رجل الأمن في المخيال الجماعي المغربي، حيث لاحظوا كيف أن فلسفة التواصل التي تعتمدها المديرية العامة للأمن الوطني لم تعد تقوم على تبرير القوة، وإنما على إبراز الوظيفة الاجتماعية، والبعد المواطناتي لرجل وامرأة الأمن.
هذا النشاط الأكاديمي الذي جرى تحت إشراف الأستاذ محمد زين الدين، لم يكن مجرد زيارة ميدانية بل شكل امتدادًا لدرس تطبيقي حي في العلوم السياسية، تُرجم فيه الربط الفعلي بين النظري والممارسة، وبين الجامعة والدولة، وبين السياسة والمجتمع. وقد خرج الطلبة من هذه الزيارة برؤية أكثر نضجًا وعمقًا حول وظائف الدولة الحديثة، وتحديات تدبير الأمن في ظل التحولات التكنولوجية والاجتماعية الراهنة.
وإذا كانت الجامعات المغربية مطالَبة اليوم بالانفتاح على محيطها، فإن هذه التجربة تعطي نموذجًا رائدًا في كيفية إدماج المؤسسات الدستورية والأمنية ضمن التكوين السياسي والأكاديمي للطلبة، بما يسهم في صناعة نخب واعية بتعقيدات الدولة، وقادرة على الإسهام في التفكير العمومي المستقبلي حول السياسات الأمنية والتنموية في المغرب.