الرباط – كواليس
في الأيام الأخيرة، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديو نشره مؤثر فرنسي، ثم حذفه لاحقاً، يتحدث فيه عن وجود مواد مسرطنة في بعض منتجات الأجبان والحليب، من بينها الجبنة المعروفة “كيري” المصنّعة في المغرب. الفيديو، رغم حذفه، أثار جدلاً واسعاً بين المستهلكين، خاصة أن مضمونه يلامس موضوعاً حساساً يرتبط مباشرة بصحة المواطنين وجودة المنتجات الغذائية التي تستهلك يومياً في كل بيت مغربي.
لكن المفاجأة لم تكن في الفيديو ذاته، بل في الجهة التي بادرت إلى الرد. فقبل أن تنبس الشركة المعنية ببنت شفة، خرج المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (الأونصا) ببلاغ رسمي، يفنّد ويكذّب ويؤكد سلامة المنتجات، وكأنه ناطق رسمي باسم الشركة المنتجة وليس هيئة رقابة تابعة للدولة.
السؤال المشروع الذي طرحه الرأي العام: لماذا صمتت الشركة؟ ولماذا تحركت المؤسسة العمومية المكلفة بالمراقبة بهذا الحماس؟ هل نحن أمام حالة دفاع عن صحة المواطنين أم عن مصالح الشركات؟ وهل دور “الأونصا” هو التحقق من المعلومات ومتابعة التحقيقات أم الرد الاستباقي لتبرئة طرف تجاري؟
البلاغ الصادر عن المكتب بدا في صياغته وكأنه مرافعة قانونية عن منتج تجاري أكثر مما هو توضيح رسمي علمي. فقد نفى بشكل قاطع دون الإشارة إلى أي تحليل مختبري أو تقرير علمي صادر بعد الحادث، كما لم يشر إلى فتح أي تحقيق أو أخذ عينات جديدة من السوق، بل اكتفى بالتأكيد أن المنتجات “تحترم المعايير”. لكن من قال إن المشكل في المعايير وليس في تطبيقها؟
ما يثير الريبة أكثر هو أن المكتب، المفترض أن يكون حَكماً محايداً بين المستهلك والمُنتِج، بدا وكأنه اختار موقع الدفاع عن المُنتِج، دون أن يترك هامشاً للشك أو التحقق المستقل. كان الأجدر به أن يقول للرأي العام إنه سيفتح تحقيقاً مخبرياً مستقلاً، وأن النتائج ستعلن للرأي العام، لا أن يتسرع في إطلاق أحكام البراءة باسم الشركة، التي لم تكلف نفسها حتى عناء التواصل مع المستهلك المغربي أو إصدار بلاغ رسمي يطمئنه.
إن ما يثير التساؤل هنا ليس فقط صمت الشركة، بل هذا التداخل الخطير بين من يُراقِب ومن يُبرِّئ. حين تصبح جهة الرقابة صوتاً من أصوات السوق، يفقد المواطن ثقته في المؤسسات، ويتحول “الحق في المعلومة” إلى ترف إداري. فالمغاربة لا يطلبون أكثر من الشفافية: إذا كان المنتج آمناً، فليُعلن ذلك بناء على تحليل علمي، وإذا كانت هناك شبهة، فلتفتح الأبحاث المخبرية اللازمة وتُنشر نتائجها للرأي العام.
الأخطر في المشهد أن “الأونصا” لم تكتفِ بالتكذيب، بل تبنّت أسلوباً دفاعياً مبالغاً فيه، يوحي وكأن المسألة تمسّها شخصياً. وكأننا أمام جهاز عمومي يعتبر نفسه جزءاً من المنظومة التسويقية للشركات الكبرى، لا حارساً للمصلحة العامة.
صحيح أن المغرب راكم تجربة مهمة في مراقبة الجودة والسلامة الغذائية، لكن هذه الحادثة تذكّرنا بضرورة الفصل الواضح بين وظيفة المراقبة ووظيفة الدفاع. فالمؤسسات العمومية لا يُفترض أن تتحرك لتبرئ شركات خاصة، بل لتُطمئن المستهلكين على أسس علمية موثقة وشفافة.
أما الشركة المعنية، فقد اختارت الصمت المريب، وكأنها تراقب من بعيد كيف تتولى مؤسسة الدولة الدفاع عنها مجاناً. وهذا في حد ذاته سلوك غير مهني وغير محترم لزبنائها، الذين يملكون الحق في معرفة الحقيقة من المصدر نفسه، لا من جهة ثالثة تتحدث نيابة عنه.
من هذا المنبر، نؤكد أن لا أحد يملك الحق في الترويج لمعلومات غير مؤكدة، لكن في المقابل، لا أحد يملك الحق في إغلاق باب النقاش والتساؤل المشروع باسم حماية “سمعة المنتج الوطني”. فصحة المواطن أولى من أي علامة تجارية، ومصداقية المؤسسات أولى من أي صفقة تجارية.
البلاد في حاجة إلى مؤسسات تراقب بعيون الدولة لا بعيون الشركات، وتكذب فقط حين تملك الدليل، لا حين تتلقى الإشارة. فالمستهلك المغربي، بعد كل هذه السنين من التطمينات الباردة، يستحق أن يُخاطَب بعقل، لا أن يُطَمأَن ببلاغ.



