أحلام العمر السياسية بالمغرب

الحسين بوخرطة
مهندس رئيس ممتاز
النص الذي بين أيديكم، إخواني أخواتي المتتبعين، هو بمثابة صرخة لمهندس من القطاع العام بالمغرب مارس وواكب التدبير السياسي التنموي بأبعاده التقنية والإدارية والمالية لمدة تجاوزت ثلاثة عقود.. هذا المقال إذن هو بمثابة صرخة قلق وأمل في نفس الوقت، تتوالى عباراتها مستحضرة واقع دول الجنوب عامة، والمغرب خاصة، زمن الإشباع الذي تتميز به المرحلة التاريخية لما بعد الحداثة. قد نسميها مرحلة ما بعض الانطباعية كما عبر عنها الكاتب رودولف بانوتز، والتي جدد مفاهيمها المعاصرة الفيلسوف والناقد الفرنسي/الجزائري الأصل جاك دريدا معتمدا مصطلحي التفكيك و التقويض الشهيرين..
التغيرات الجارية مغربيا بإرهاصاتها ومتعالياتها القيمية المنفصلة عن واقع حال المغاربة تدعوا فعلا للتفكير العميق. إننا نعيش فعلا المفارقات التاريخية والاجتماعية والفكرية والحسية التي تعكس وجودنا الآني، الشيء الذي يستوجب استنهاض الهمم وتوالي ردود فعل الموضوعية من طرف كل الفاعلين والمثقفين والمفكرين. المغرب اليوم في حاجة ملحة لتراكم وتكاثف الجهود من عمق هياكله المجتمعية لتمكين مقومات السيادة الوطنية الحرة من الخبرة اللازمة والآليات الناجعة لتبخيس كل ما يتسم بالغموض والالتباس وكل ما يمكن اعتباره خروجا عن النسق المنطقي لتاريخ الأفكار التاريخية والفلسفية.
لذلك وجدتني مضطرا للتركيز على الإيجاز والتكثيف وطرح ما يتعلق بالذات بالموضوعية التامة في إطار ما يعرف بالنقد المبني على الشخصية (كتابي “سراديب الموت” النقد المبني على الشخصية للمجموعة القصصية “أوان الرحيل” للكاتب الدكتور العراقي علي القاسمي). نص المقال هذا هو كذلك بمثابة بداية مسار بقصص واقعية لشخصية عاشت وعايشت التطورات الأخيرة لما بعد الحداثة لافتة الانتباه إلى ما تتسم به الروح الوطنية من التشظي والهدم القيمي المتواصل. إن المغاربة اليوم أمام شخصية وطنية مركبة بأبعادها الثقافية وبواقعها الذي اكتسحته الهموم والقلق الوجودي الأزلي.
كما قد أعتبر نفسي بنصي هذا طامحا للانعتاق من التمثلات العادية والسطحية حالما بالغوص في عوالم تكاد تعبر عن جنون محظور. إنها أفكار لا أروجها لتمرير اختزال ما، بل هي بمثابة توالي أفكار منسقة أراها لصيقة بوعي الإنسان المغربي المعاصر المنهك والمثقل بهويته السطحية المهزوزة التي تبعده عن عمق معاني وطنيته الصادقة.
إن ما ورد في نصي هذا هو تعبير صادق لهواجسي القلقة اتجاه مجتمعي المهترئ بخيبات حروبه الوجودية القاهرة وسعاره المحموم الرافض للإذلال طامحا أن تتوفر له الشروط المناسبة للتعاطي الإيجابي مع مفهوم السلطة بالشكل الذي ييسر له ارتمائه في أحضان التمدن والتكنولوجية بعيدا عن العشوائية.
تجربتي الإدارية والسياسية والنقابية والجمعوية لأكثر من أربعة عقود جعلتني كذات أنتفض بصدق شديد متحملا عبء أمانة كشف الجزء المتصلب من عوائق التنمية في المغرب الأغر، الذي سمى تطوراته السياسية الأستاذ محمد الساسي بتطورات المغرب الاستثنائي. إنه تاريخ فضاء سياسي مغاربي تميز بثلاث انتقالات سياسية استثنائية بارزة. الانتقال الأول قاده القيادي عبد الله إبراهيم رحمه الله ولم يدم لأشد الأسف إلا سنتين بفعل تطورات الأوضاع الإقليمية والجهوية والدولية. أما الثاني، فقد دام فترة انتدابية كاملة توجت بما سماه الاتحاديون بالخروج عن المنهجية الديمقراطية (قادها المرحوم عبد الرحمان اليوسفي). إنه الانتقال الذي تخللته مراسيم انتقال العرش إلى جلالة الملك محمد السادس سنة 1999. الانتقال السياسي الثالث ارتبط بدوره بالأوضاع الإقليمية والجهوية التي مكنت التيارات الإسلامية من التموقع في واجهة التطورات المغربية بعد فشل الإنتقالين السابقين (بقيادة عبد الإله بنكيران ثم نائبه سعد الدين العثماني).
إن المتتبعين وقفوا بتمعن لرسائل الخرجات الأخيرة لإبراهيم أوشلح على صفحات مجلة زمان باللغتين العربية والفرنسية. إنها اعترافات تم التفوه بها في توقيت نعته البعض بالمدروس على المستوى الذاتي. الأحزاب والنقابات الوطنية عرفت تراجعات مقلقة للغاية. الدولة بأحزابها تصدرت واجهات الأحداث والتطورات في سياق تجاوزت فيه هياكلها الرسمية (الدولة المخزنية العميقة) تقرير الخمسينية ليحل محله النموذج التنموي الجديد.
المغرب يتوفر اليوم على مؤسسة رئاسة الدولة (الملكية) في أوج قوتها دستوريا وميدانيا (رئاسة المجلس الوزاري، والقضاء، والجيش، والدين، والعلاقات الخارجية،…). المغاربة اليوم في غنى عن تذكيرهم بأحداث الماضي ومطباته وصراعاته. الدولة عوضت ضحايا الجمر والرصاص ولا زالت منكبة على الملفات العالقة، وجلالة الملك محمد السادس بعث برسالة مشفرة للشعب المغربي عندما زار المقاوم عبد الرحمان اليوسفي في المستشفى مقبلا رأسه. إنه الزعيم بحجم وطن الذي قدم له من طرف أبيه المرحوم الحسن الثاني كأب ثان، والذي قررت الدولة دفنه إلى جوار رفيقه في النضال الوطني المرحوم عبد الله إبراهيم بالدار البيضاء (شخصيتان استثنائيتان بارزتان في التاريخ السياسي المغربي المعاصر).
ونحن نعيش ظروفا جديدة في سياق دولي متوتر، وظروف وطنية نعتت بمرحلة ما بعد المصالحة الحقوقية والحسم في مسألة الثقة ما بين مكونات الشعب المغربي وتمثيلياته المدنية والنظام المغربي، من حق المغاربة اليوم أن تنتابهم أحلام العمر. من حقهم اليوم أن لا تتسخ آذانهم مستقبلا بممارسات وشهادات متجاوزة أصبحت بحكم الواقع مفضوحة وتثير الاشمئزاز على غرار: الصراع من أجل التموقع أو الحكم، والتمثيلية آلية للاغتناء الذاتي، والزبونية والفساد والقبيلة والعقيدة أساس الشرعية السياسية، والتعيين في مناصب المسؤولية مرتبط بالدهاء في نصب فخاخ التوريط وفبركة حبكات الطبخ والأكل (الاستحواذ على المال العام بالباطل)، وأهلية النخب في التوزيع مرتبطة أكثر بالقدرة على بلورة خطط الابتزاز مبدعة القنوات الكاشفة لألاعيب التدبير ولتجاوز مقتضيات دفاتر التحملات المشبوهة أو المختلة عن إصرار وترصد في مجال الصفقات العمومية، ربط شرط تقديم الدعم للمسار الرسمي بالمطالبة بالنصيب أو الابتزاز والفضح المذر للدخل في السوق السياسية السوداء …..إلخ.
من حق المغاربة، وهم على مشارف سنة 2025، أن يحلموا بقوة إدارتهم اللامتمركزة، إدارة شفافة في كل المستويات الترابية. من حق المغاربة أن يحلموا بوطن بمسؤولين أكفاء (الدبلوم والفكر والخبرة) في مختلف هياكل ومستويات دولتهم بعيدين كل البعد عن الفساد المالي (نظافة اليد). المغاربة على علم تام أن شفافية وكفاءة المعينين في مناصب المسؤولية كفيلة بقيادة المغرب في اتجاه دعم تقوية ندية بلادهم السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية عربيا وإفريقيا وأوروبيا. لذلك، فهم يحلمون اليوم أكثر من السابق، بحكومات إقليمية مصغرة شفافة وخبيرة وقادرة، بإمكانياتها المالية وسلطات قراراتها، على قيادة التنمية الترابية في إطار المفهوم الحق لسياسة إعداد التراب والجهوية الديمقراطية التشاركية. المغاربة يحلمون بتحويل شعار “التوزيع المتكافئ للأنشطة الاقتصادية والخدمات الاجتماعية والسكان بين جهات المملكة” إلى حقيقة ترابية لا تتيح أي مجال للجدل والتشكيك والتكذيب. إنه الحلم الواعي بحاجة البلاد إلى إدارات إقليمية وجهوية تستغل كل الإمكانيات الترابية الكامنة لخدمة التوازن والتكامل على المستويات الجماعية والإقليمية والجهوية.
في الأخير أقول أنه عندما تكون نية الفساد ملتصقة بذهن المسؤول، لا يترتب عن ذلك إلا ميوله لتعيين رؤساء تسلسليين من نفس الطينة، فيعيش النفوذ الترابي الذي يدبر ويرعى شؤونه فسادا مستشريا في كل دواليبه (دواليب تدبير الشأن العام)، ليمتد الفساد كتحصيل حاصل إلى القطاع الخاص (السيبة والتسيب)، فتزداد معاناة المواطن البسيط حدة، فيتفاقم شعور الغضب والميولات إلى التقية والتشكيك في المستقبل.
كلنا أمل أن تكون سنة 2025، بداية ترسيخ منطق جديد في تدبير الشأن العام المغربي وعربون وفاء لأهداف وتطلعات جلالة الملك محمد السادس.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني