الدعم العمومي: المهنية لا تقاس بحجم المقاولة بل بصدق رسالتها الإعلامية
في خطوة تحمل في ظاهرها دعما للنسيج الإعلامي الوطني وتعزيزا لدور الصحافة في ترسيخ التعددية ومواصلة خدمة المصالح العليا للوطن، أثار القرار الحكومي المشترك لدعم الصحافة جدلا واسعا في الأوساط الإعلامية.
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن أي دعم عمومي يجب أن يكون أداة لدعم المقاولات الفتية أو المتعثرة، وكذا لتحقيق تكافؤ الفرص وتمكين جميع الفاعلين من تطوير أدائهم بما يخدم المصلحة العامة، أما إذا انحاز عن هذا السياق، كما الحال في نازلة اليوم، فمن الأحرى تسميته شيئا آخر إلا “الدعم”. وواقع الحال الآن يشير إلى أن هذا القرار قد انحرف عن مساره، متجها نحو تكريس تفاوتات صارخة بين المقاولات الإعلامية “الكبرى” و”الصغرى”.
ولعل أبرز ما يثير الاستغراب هو غياب الشفافية والعدالة في توزيع الدعم العمومي. ففي الوقت الذي تحصل فيه بعض المقاولات الإعلامية الغنية على النصيب الأوفر من الكعكة، تُترك المقاولات الفتية والمتعثرة تكافح من أجل البقاء في زمن يغلي بالتحديات الهيكلية والاقتصادية المتزايدة.
هذا الدعم السخي للمؤسسات الإعلامية الكبرى، التي تتوفر على إمكانيات هائلة وقدرة على تحقيق أرباح من الإعلانات والرعايات وغيرها، يعكس سياسة حكومية تنحاز بشكل واضح إلى فئة قادرة بالفعل على تمويل نفسها، بينما تهمل أخرى أقل حجما ولكنها تلعب دورا محوريا في تعزيز التعددية الإعلامية وإيصال صوت فئات واسعة من المغاربة، والأهم، أنها ظلت منذ تأسيسها مجندة للتصدي لمناورات الأعداء وخدمة المصالح العليا للوطن.
ثم كيف يعقل أن يتم حصر الدعم العمومي وتوزيعه على “مقاولات كبرى” لا تقل كتلة أجورها ونفقاتها الشهرية عن 90 مليون سنتيم، ورقم معاملات سنوي لا يقل عن 200 مليون؟
لكن هناك نقطة أخرى جوهرية لا بد من وقفة تأمل عندها. إنه لمن الخطأ الجسيم الافتراض أن حجم المقاولة الإعلامية يعكس دائما مستوى احترافيتها أو تأثيرها المجتمعي. فالعديد من المقاولات الصغرى أثبتت جدارتها في إنتاج محتوى إعلامي يتميز بالمهنية والموضوعية، وحققت نسب متابعة محترمة تعكس ثقة جمهورها. في المقابل، هناك مؤسسات إعلامية توصف بالكبيرة لكنها تنتهج أساليب رديئة، تفتقر إلى الإبداع والمهنية، ومع ذلك تستمر في الاستفادة من الدعم بسبب نفوذها أو علاقاتها القوية.
التعددية الإعلامية ليست مجرد ترف ديمقراطي، بل هي ركيزة أساسية لأي نظام يروم احترام التنوع الثقافي والاجتماعي. وعندما يتم إقصاء المقاولات الصغرى والمتعثرة اقتصاديا من الدعم، فإننا بذلك نقوض هذا التعدد ونفتح المجال أمام الصوت الوحيد على غرار “الحزب الوحيد”، حيث التحكم في توجهات الرأي العام ونقل صورة أحادية للواقع. لكن، هذه المؤسسات، في جميع الأحوال، لن تكون دائما الأكثر حرصا على خدمة المصلحة الوطنية، بقدر ما تنشد تحقيق مصالحها الخاصة.
أمام كل ما سبق، لا بد أن يتجاوز الدعم العمومي فكرة مكافأة الحجم المالي إلى التركيز على الأداء المهني والجدوى المجتمعية للمقاولة الإعلامية. وقد بات اليوم من الضروري أن تُمنح الأولوية للمؤسسات التي تقدم محتوى يعزز القيم الوطنية والديمقراطية، بغض النظر عن حجمها أو قدرتها المالية. فالمقاولات الصغرى تحتاج إلى الدعم، ليس فقط لضمان بقائها، ولكن أيضا لتحفيزها على تطوير نفسها والمساهمة بشكل فعال في مشهد إعلامي متعدد ومستقل.
القرارات الحكومية المتعلقة بدعم الصحافة يجب أن تراجع بشكل عاجل، لتصبح أكثر عدالة وشفافية، مع مراعاة دور جميع الفاعلين الإعلاميين في المشهد الوطني. دعم المؤسسات الإعلامية الكبرى يجب أن يكون مقترنا بضوابط صارمة تضمن توجيه هذه الموارد لخدمة أهداف وطنية واضحة، وليس لتعزيز احتكارها للسوق. وفي المقابل، يجب تخصيص دعم كاف للمقاولات الصغيرة والصاعدة، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من النسيج الإعلامي الوطني.
في ظل التوتر الحالي الذي يطبع المشهد الإعلامي الوطني منذ الإعلان عن القرار المشترك المشؤوم، وإن لم يتم تدارك وتصحيح هذه الاختلالات، سنكون أمام مشهد إعلامي يعاني من الاحتكار والتوجه الأحادي، حيث تضيع فرص تعزيز إعلام متعدد ومستقل يخدم الوطن ويعكس تطلعات مواطنيه، لأن الصحافة الحرة والنزيهة تحتاج إلى بيئة حاضنة، لا إلى سياسات وقرارات و”مراسيم” عشوائية تهدف إلى إقصائها، وربما سعيا لإزاحتها من الوجود.
بقلم: محمد البودالي