ترجمة وتقديم: مؤنس مفتاح
تقديم: تتحدث الأديبة “هيرتا مولر” الحاصلة على جائزة نوبل للآداب في هذا الحوارعن قصائدها وعن قوة وفشل الكلمات. لقد ترعرعت “هيرتا ميلر” في قرية رومانية تنتمي إلى منطقة “ِبنات”. استقر هناك منذ قرون خلت مهاجرون احتفظوا بلهجتهم وتقاليدهم الألمانية، كما سادت في المنطقة قواعد “التعايش معا” دائما وبالتالي صارت الكلمات البسيطة ك: القرية و البلدة و الميدان والأب محددة لأسلوب “هيرتا مولر” الكاتبة لاحقا، كما كان هناك بالطبع ما يسمى ب “الوجود” في ظل الديكتاتورية الشيوعية والفاشية في الماضي حددتها توترات داخلية عميقة،ومن ثمَّ قامت”هيرتا مولر”في كتابها الأول”الأراضي المنخفضة” الصادر سنة 1982 بتصوير حياة القرية كما ظلت “الضغوط في عالم الشمولية” موضوعا لها وقد استنسخت تلك الكلمات لغويا أيضا فجمعت عبارات بسيطة وعملية وقدمتها في عناوين بعض الروايات مثل: “قلب الحيوان” (1994) و “أرجوحة النفس” (2009. أصدرت مؤخرا ديوانا بعنوان “أبي يُهاتف الذباب” و هوعبارة عن قصائد شعرية معتمدة على فن “الكولاج” و قد اختارت فيه الكلمات بتمعن شديد و دقة متناهية.
جريدة شبيغل: سيدة “مولر”، إن الذي يتصفح كتابكِ الجديد، يجد أمَامَهُ ملاحظاتٍ مبتزة وكلماتٍ ملتصقة و متقطعة وهذا بالنسبة لكاتبة حاصلة على جائزة نوبل أمرغيرعادي و لا اعتيادي، فلماذا فعلتِ ذلك؟
هيرتا مولر: لا، لا أظن ذلك. أعتقد أنني لم أبتز أي شخص أبدا. إن الابتزاز شيء رهيب، إلا أن ابتزاز الدولة و الابتزاز في العلاقات يظلان الأسوأ على الإطلاق. لا يبدو لي ما تقولينه صحيحا عندما أفكر في فن”الكولاج”، أنا أقوم بربط هذا الفن أكثر بالمنشورات، فهناك حيث نشأتُ في رومانيا، في “الديكتاتورية”، لم يكن ممكنا كتابة المنشورات بالآلات الكاتبة لأنها ببساطة مسجلة عند الشرطة أي أن لديهم قائمة بتلك الالات.
جريدة شبيغل: إن الأدباء يضايقون أنفسهم بتعريف الجنس الأدبي، عندما يأتون للتحدث عن الفن “الكولاج” الخاص بهم: واحد يتحدث عن “صور القصيدة” و الآخر يتحدث عن “القصص القصيرة” أو “قصائد النثر”. أيّ تعريفٍ تفضلين أنتِ سيدة “مولر”؟
جريدة شبيغل: بالنسبة لي فن “الكولاج” طريقة للكتابة ولا شئ آخر. بدأت منذ سنوات عديدة بإعطاء بطاقات للأصدقاء بكلمات ملصقة عليها، لقد كان دائما معي مقص صغير يُطوى وعندما أقرأ المجلات على متن الطائرة وتُعجبني كلمة ما، أقوم بقطعها. ثم بعد ذلك أدركتُ كم هو ضخم عدد الكلمات المبحوث عنها، وقد واصلت نفس العملية في المنزل أو في المطبخ على لوحة التقطيع حتى أتمكن من حمل الكلمات بعيدا عند تناولي للطعام وجدير بالذكرهنا أن الكلمات تحمل طابعا توسعيا فهي تصبح دائما أكثرو أكثر.
جريدة شبيغل: هل يمكننا الحديث هنا عن إدمان “الكلمة”؟
هيرتا مولر: نعم بالفعل إنه أمر لا يصدق! لا أستطيع فعل شيء اخر عند القراءة سوى البحث عن الكلمات، وأنا أقوم بالقطع كذلك من جريدتكم ” شبيغل” فهي جريدة غنية بالمصطلحات. أنا أقرأ غالبا في سريري ليلا، فأضع في بعض الأحيان المجلات جانبا و لكنني للأسف لا أعثر بعد ذلك على الكلمة المقصودة، و هذا الخوف لازال لا يتركني إلى يومنا هذا لأنني أعتقد أن هذه الكلمة لن أجدها أبدا مرة أخرى فهناك عندي بعض الكلمات مكررة 20 مرة، فأنا أهدف من خلال هذا التكرار أن أُثبت لهذه الكلمة أنني لن أتركك تذهبين بعد الان.
جريدة شبيغل: متى بدأتِ تفعلين ذلك؟
هيرتا مولر: حصل هذا منذ فترة طويلة، فقد قُدمت لي في مطلع التسعينات منحة دراسية من ” فيلا ماسيمو” و آنذاك كنت أعيش في روما، فقمت حينها بملء كل الدرج بالكلمات المقطوعة وقد تواجدت هناك عاملة تنظيف تحصل على المال من الإدارة و كنت لا أريدها أن تنظف الدرج لذلك عقدنا اتفاقا أُن تشرب القهوة بدل التنظيف وبهذا تبقى كلماتي حيث هي موجودة، إن حجمها كبير بالفعل لدرجة أنني لم أستطع استيعابها.
جريدة شبيغل: هل تريدين حِفظ و إِنقاذ الكلمات؟
هيرتا مولر: ربما، فمن المؤكد أن هناك علاقة مع خلفيتي. لقد كانت الأمور في رومانيا قاتمة وحبر الطابعة سيء و رائحته قوية فإذا قرأ المرء شيئا صارت أصابعه سوداء. وكانت المفردات أيضا في هذه الجرائد رتيبة تماما و قد وُجدت هذه القتامة والملل في العقل أيضا، ولكن عندما جئت إلى ألمانيا سنة 1987 أضحى كل شيء فجأة ملونا. هذه الألوان كثيرة! لدرجة أنها أصابت عيناي بالأذى. كنت أفكر في المجلات قائلة :”يا إلهي، كم هو جميل هذا الورق وهل سيتم طرح هذه الخطوط والصور في القمامة!”، لهذا السبب أردت أن أفعل بها شيئا.
جريدة شبيغل: جميل، في غرفة عملكِ هنا في برلين نجد كومة هائلة من المجلات. من أين حصلتِ عليها؟
هيرتا مولر: إن الناس هنا في المنزل يضعون على عتبة بيتي المجلات التي لا يريدونها. وهناك دائما إعلانات في الأكشاك عن وجود مجلات غير مرغوب بها أما بالنسبة لجريدة “شبيغل” فقد قمت بالاشتراك فيها …
جريدة شبيغل: … هذا عمل نموذجي …
هيرتا مولر: )… (هذه طريقة تفانٍ قديمة. لقد تعلمت هذه العادة في رومانيا من معهد “غوته” إلا أنني كنت مرغمة على رمي المجلات أيضا وهذا أمرصعب بالنسبة لي لأنها دائما ما كانت تتضمنُ بداخلها كلمات جديدة.
جريدة شبيغل: يبدو بيتك أنيقا، ولكن المجلات توجد مبعثرة و بصورة عشوائية، كما أنها تأخذ مساحة نصف غرفة. لماذا تسمحين لنفسك بفعل ذلك؟
هيرتا مولر: لأنه أمر لطيف جدا عدم إخفاء المؤلفات. ففي رومانيا، كنت ملزمة بإخفاء كل شيء عن جهاز المخابرات.
جريدة شبيغل: ما هو الفرق بين التأليف بالكلمات المقصوصة و كتابة الروايات؟
هيرتا مولر: إن إلصاق الكلمات عملية ذات معنى، فالكلمات تمتلك الاستطاعة والقدرة على فعل كل شيء. أنا اخد دائما الكلمات المعتادة فقط وعندما أضعها معا، ينشأ ما هو جديد، ويبدأ في اللمعان. إنها ليست مثل النثر الذي يبقى مع الإنسان لمدة ثلاث أو أربع سنوات فقط، كما أن هذا النثر يجعلني دائما في خدمته و ليس العكس. أما الفن التصويري فهو قصيرو يجب تضمينه في بطاقة وأعرف أنني في غضون أسبوع سأكمله، لأن الكلمات موجودة بالفعللدرجة أن اعتقادي يذهب في بعض الأحيان في اتجاه أنني لست “أنا” من يكتب، كما أن القافية تقذفكِ حيث لا يمكنكِ الوصول. إن القافية أشبه بمحرك صغير يدفع الكل.
جريدة شبيغل: إن شعر الفن التصويري غالبا ما يكون مضحكا، في رواياتك أخفقت في خلق الفكاهة. لماذا؟
هيرتا مولر: في كتبي الأخرى المتعلقة بالدكتاتورية لا أتحمل فعل ذلك. إن الفكاهة ليست سوى جزء مني ومن شخصيتي مع الأصدقاء. وأسترجع شيئا مهما عن الفن التصويري، إذ يمكنني من خلاله التطرق للمواضيع المظلمة بشكل مختلف.
جريدة شبيغل: إن الفكاهة تنشأ من من خلال مزج الكلمات، إنك تستفيدين من ميل الألمان إلى الكلمات المركبة.
هيرتا مولر: نعم، هذا الشيء الأكثر جمالا في اللغة الألمانية: الكلمات المركبة. في اللغات الرومانية، هناك في كثير من الأحيان حرف الجرفقط.
جريدة شبيغل: لقد نشأت في أقلية ألمانية تتحدث اللهجات، مما يعني أنه يمكنكِ التكلم باللغة الألمانية الكلاسيكية والرومانية وكذلك اللهجات وسؤالي هما: هل اللغة الألمانية مناسبة للشعر؟
هيرتا مولر: لا، ليس بالضرورة اللغة الألمانية. فقد كنت دائما أعاني مشاكل مع النصب، ولهذا السبب يجب على المرء المحاولة عدة مرات من أجل الوصول للعبارات الصحيحة. لم تكن اللهجة معقدة وهذا ما أعتبره جميلا وذو معنى.لو كنت أتستطيع لذهبت فورا إلى طريقة الخطاب المباشر لأن اللغة تبقى بهذه الطريقة قريبة.
جريدة شبيغل: ألهذا السبب تتجنبين الكلمات الأجنبية؟
هيرتا مولر: أنا لا أحب المصطلحات المجردة في مؤلفاتي. فلن أكتب أبدا مصطلح “الديكتاتور” مثلا.
جريدة شبيغل: إن شخصية “الديكتاتور” تظهر جليا في الفن التصويري. لقد كانت الرومانية بالنسبة لك لغة القوة، فهل أثر ذلك على علاقتكِ بها؟
هيرتا مولر: لا، لا أظن ذلك، لقد تحدثت كثيرا مع أناس عاديين وعمال في المصانع. كان عمري 15سنة عندما تعلمت اللغة الرومانية وهو السن الذي أتقنت فيها اللغة الرومانية، لقد كان ذلك أمرا ممتعا، لاأستطيع أن أقول خلاف ذلك. إن اللغة اليومية الرومانية هي الأجمل، إنها مبتذلة ولكنها ليست أبدا وقحة. تحصل اللغة المبتذلة على الحنان، فهي تُنشئ نوعا من “عدم وجود وسيط” بين الناس وهذا أمر لا تستطيعه اللغة الألمانية. لقد نمت اللغة الرومانية في فكري لأنني غادرت رومانيا عندما بلغت 34 سنة.
جريدة شبيغل: إنك تستخدمين في بعض الأحيان اسم المؤنث لكلمات لها في اللغة الألمانية صفة المذكر،هل توافقينن الرأي؟.
هيرتا مولر: نعم،هذا صحيح، و السبب في ذلك كون بعض الكلمات باللغة الرومانية تقبل جنسين مختلفين أي أن تكون مذكرا و مؤنثا. إن مصطلح “الشتاء” في اللغة الرومانية يعني “المرأة”، وبدون وعي مني، استعملته ذات مرة كمصطلح “مرأة” في اللغة الألمانية.،وأنا أعلم أنني أقصد فصل الشتاء الروماني. إن هذا هو الشيء الجنوني في اللغات، فالمصطلح يبين النظرلشيء ما، إن مصطلح “الوردة” في اللغة الرومانية مذكروزهرة ال”زنبق” أيضا، كل هذا ينتج صورة مختلفة.
جريدة شبيغل: إن لديكِ لغة حية في الفن التصويري، كما أنكِ تضيفين علاوة على ذلك دائما صورا صغيرة ملصقة. هل ترين نفسك فنانة تصويرية؟
هيرتا مولر: لا، ليس الأمر كذلك، بل هي الحِرفية ، والذي يعجبني في هذا الفن هو: القص واللصق و تعديل الصور. لقد أرادت أمي أن أصبح خياطة فكانت ترسلني عند عمة لي لديها ورشة عمل، وما زلت لحد الان بإمكاني خياطة العراوي، وقد عملت عند خياطة في المدينة، فكنت أرى ما كان معلقا في المتاجر من فساتين قبيحا، مما دفعني لشراء قماش بالمتر كانت الخياطة تخيط لي منه البلوزات والفساتين والسراويل.
جريدة شبيغل: إذن هل يمكن أن نفهم أن جمال الكلمات والملابس مهم بالنسبة إليك؟
هيرتا مولر: نعم، دائما. لم يكن لدي في رومانيا سوى الخوف والأوساخ فقط وقد كنت متزينة على نحو رائع عندما كنت أذهب للاستجواب وعندما لا أتمكن من فعل ذلك، أعرفُ أنني لست على ما يرام حقا. عندما جئت إلى ألمانيا في الثمانينات، كانت الحركات النسائية تدعو النساء إلى ضرورة عدم وضع الماكياج وقد عارضتهن الرأي: ليس لديكن أية فكرة عن سبب وضع الماكياج، إن له علاقة مع الحفاظ على الذات ومع الخوف أيضا، إنكم لا تعرفون عن ماذا تتحدثون.
جريدة شبيغل: هل هناك كلمات تبدو لطيفة ولكنها لا تحمل رنة جيدة للأذن؟
هيرتا مولر: جوابي هو: لا. إن التأليف هو السمع أيضا. أنا أقرأ كل شيء أكتبه بصوت عال، فإذا كان لا يُسمع بشكل جيدا فأعرف أن ثمة شيء خطأ. يجب أن تكون اللغة المكتوبة دائما شفهية أيضا و ما يقرأه المرء بهدوء يجب أن يُسمع بشكل جيد في العقل.
جريدة شبيغل: أنت تجمعين الكلمات، ولكن لم يسبق لكِ أن صرحت بحبكِ للغة ما. لماذا هذا الأمر؟
هيرتا مولر: لا أستطيع تحمل قول الكُتّاب بأن الكتب أطفالهم. لا أود أن أبنِي علاقةُ يمكنها أن تؤذيني. لا، اللغة من منظوري شيء يأتي من الخارج، يُمكنها أن تفعل كل شيء و لكنني لا أثق بها أيضا، هذه اللغة ليست موجودة إلا لذاتها وهي تعمل بالتوازي مع ما حدث في الواقع فقط.
جريدة شبيغل: هل لا تثقين باللغة لأنها يُمكن أن تتحالف مع الإكراه و الإلزام؟
هيرتا مولر: يُمكن للغة التحالف مع كل شيء. يمكنها أن تقتل أيضا وتنقد في حالة الاعتماد على الكلمة المناسبة و الصحيحة. لايمكنني أنا أقول أبدا جملة: “أنا لا أحب اللغة” ،بطبيعة الحال لا يمكن ذلك، فأنا أرصدها وأريد أن أرى ما تتضمنه من معاني.
جريدة شبيغل: أنتِ عندما مُنحت جائزة “نوبل”، قُلت: “إن الكتابة بالنسبة لي إحساس داخلي لا أستطيع كبحه”. كيف يمكن ذلك، إذا كنت تقولين بأنكِ لا تثقين في اللغة؟
هيرتا مولر: إنها ليست اللغة نفسها، إن العمل بها الذي يجعلني أتوقف. إن الإنسان لا يعمل فقط لكسب لقمة العيش، ففي الوقت الذي نعمل فيه نكون آنذاك لسنا حاضرين بكامل وعينا، لذلك فنحن نساوي ما نقوم به وهذا الأمر يريحنا. إن الإنسان يتحرر أثناء العمل من نفسه والكتابة تُفضي إلى الطريق الواحد، أظن أن كل عمل أدبي يجعل المرء مهووسا به و يُعرف بنفسه من خلاله، وهذا ما جعلني شغوفة باللغة، ولكن هذا ليس له أي علاقة باللغة كلغة ولكن أكثر بالحياة. أريد أن أقول في كتبي، ماذا يحدث في الحياة، فاللغة مجرد أداة.
جريدة شبيغل: كتبكِ لديها علاقة قوية بكِ. لماذا تقولين أن الكتابة تقودك بعيدا عنك؟
هيرتا مولر: لا، لم أقصد ذلك، فالأمر يتعلق بعدم الشعور بالذات في تلك اللحظة، عندما أكتب فلدي ما أقوم به، فالوقت يملأ نفسه ويمضي.
جريدة شبيغل: لقد بدأتِ بالكتابة عندما فقدت وظيفتك كمترجمة في أحد المصانع، هل هذا صحيح؟.
هيرتا مولر: نعم، اجتمع آنذاك كثير من الأمور،فقد توفي والدي في تلك الفترة أيضا. وقد كانت علاقتي سيئة مع والدَيّ و خاصة أبي “النازي” وكان هذا سبب شاجرنا الدائم وعلى أي حال أعتقد أنه أمر يدعو للأسف كون العلاقة مع الأباء ليست على ما يرام. لم يكن بمقدور أبي معرفة أنهُ سيموت والسبب في ذلك راجع إلى الفجوة المخيفة بين آماله وحالته، لقد جعلني مضطربة وبلا حول ولا قوة.
شكل أبي نقطة تحول محورية في حياتي ولكن هذه الطفولة والقرية التي أتيت منها أيضا توجدان الآن ورائي و بلا رجعة فقد أصبحت فجأة كل هذه الأحداث شيئا واضحا لي، لذلك فأن الا أكتب عن هذه القرية المنعزلة وعن الوقت المتوقف إلا قليلا.
جريدة شبيغل: هل هكذا نتج كتابك الأول “الأراضي المنخفضة”، الذي أشاد به النقاد؟.
هيرتا مولر: لم أفكر في ذلك الوقت أن أكتب الأدب، ولكني أردتُ أن أوضح شيئا. نعم، فكتابتي مدفوعة ٌوموجهةٌ من خلال الخوف الذي انتابني من الشرطة السرية. لقد أخد المسؤولون في المصنع مني مكتبي ولكن لا أحد ألغى عقدي. فقد كنت أعلمُ أنني مُلزمة بعدم السقوط في الخطأ فلم أرغب في إعطائهم حجة لطردي، لذلك كنت أحضر إلى المصنع من الساعة السادسة و النصف صباحا حتى الساعة الخامسة مساء. ولم يكن عندي مكان أذهب إليه لذا كنت أجلس على الدرج. لقد كان يخالجني الكثير من اليأس من كل تلك الافتراءات التي نشرتها المخابرات عني، فقد كان العمال يستهجنوني بالصفير لأنني كنت جاسوسة و قد اعتقدت أن لا أحد الآن يصدقني ولكن كنت أؤمن في قرارة نفسي أن العالم سيلتفت إليّ.
جريدة شبيغل: وهل قامت الكلمات بإنقاذك على الدرج؟.
هيرتا مولر: لقد نظرت إلى الدرج. لقد كان للخوف عيون كبيرة و صارت الأمور غريبة ولأنها غريبة فإذا شاهدها المرء عن كثب انشغل بها. إن العمل أمر مساعد، فلكي يتمكن المرء من الابتعاد عن نفسه يمكنه أن ينشغل بالكلمات. وقد انشغلت مثلا بالكلمات الواصفة للآلات في المصنع ومن المثير للاهتمام هنا أن الأشياء تصبح في اللغة التقنية في كثير من الأحيان حية.
جريدة شبيغل: يوجد للنباتات في كتابك الشهير “أرجوحة النفس” حضور كبير جدا، هذا من وحي القصة و القصة مرتبطة بمصير الشاعر” أوسكار باستيور” المتوفي سنة 2006، والذي قدِم إلى المعسكر السوفييتي عندما كان شابا وأكل العشب من الجوع، لقد قص لك عن المعسكرومن خلال ما سمعت تمكنتِ من تأليف روايتكِ. سؤالي هنا: عندما جعلتِ شخصيات روايتك الرئيسية تأكل النباتات، هل كنت بذلك تعطين تقريرا عن طفولتك؟
هيرتا مولر: لا، ليس النباتات فقط و لكن السجناء أكلوا في الواقع كل شيء، حتى القمامة. ولكن النباتات وأسماؤها لم تأت من قصص “أوسكار باستيور” لأنه لم يكن لديه علاقة مع النباتات كما أنه لم يتمكن حتى وصفها. لقد قال تحدث “أوسكار باستيور” دائما عن الخزامى، لكنني كنت أعرف أن المعسكر موجود في البادية، فخاطبته قائلة “أوسكار” هناك لا تنمو الخزامى. لذلك ذهبنا هناك معا، لكي أستطيع اختيار الكلمات المناسبة وعندما وصلنا رأيت أنها لم تكن خزامى بل نبتة “البيقية المعنقدة”.
جريدة شبيغل: هل زرعتِ الخزامى في قبره الواقع بالقرب من منزلك ؟.
هيرتا مولر: نعم، لقد زرعت الخزامى وإكليل الجبل.
جريدة شبيغل: أنت دقيقة جدا في اختيار الكلمات، كما أنك تربطينها في رواياتك في كثير من الأحيان مع سياقات لا يتوقعها القارئ مثل كلمة “الحنين إلى الوطن” في رواية “أرجوحة النفس”، فعندما عاد السجين الذي أصيب في المعسكر إلى أرض الوطن أحس بحنين إلى المعسكر. وقد كان هذا للقارئ أمرا غير متوقع ولا يحتمل.
هيرتا مولر: إن الأمر كذلك بالنسبة لي أيضا. لقد روى “أوسكار باستيور” أنه يحس بحنين إلى الوطن، و لم أفهم ما كان يقصده. و قد رافقته سنة 2004 إلى أوكرانيا و قد كان هناك للمرة الأولى منذ الإفراج عنه ولكنني اعتقدت أنه سوف ييأس ولكنه كان سعيدا. فقد قال: أنا أغذي روحي، كانت هذه مفردات لم يستخدمها أبدا معي، لم يكن متعبا وأكل بوحشية مثل المجنون. لقد قمت في الليلة الأولى بالبكاء فقط، لأنني اعتبرت هذه الوضعية كلها غير معقولة، فيما بعد علمت أنه حتى”خورخي سيمبرون” الذي اعتقل في شبابه في معسكر “بوخنفالد” قال أن هذا المعسكر هو بيته وهذا أمر رهيب.
جريدة شبيغل: كيف تفسرينَ ذلك؟
هيرتا مولر: إنه التخريب، شيء يحبه الإنسان ولكن لا يحتمله.إن عالم المعسكر كان منظما بالطريقة الأكثر رهبة ولكنه منظم بالفعل.
جريدة شبيغل: لقد ظهرت روايتك “أرجوحة النفس” سنة 2009 وحصلت بها على جائزة نوبل للآداب، وانتشر بعد سنة من ذلك خبر تسجيل “أوسكار باستيور” مع الاستخبارات الرومانية. لم يكن أحد على عِلم بذلك مما أسال الكثير من المداد في الصحافة. وفقا للبحث الراهن عن “باستيور” فقد ثبت أنه كان عميلا سريا ولكنه قدم في الواقع تقارير قليلة. ما هو شعوركِ نحوهُ اليوم؟
هيرتا مولر: صُدمت بطبيعة الحال عندما سمعت هذا الخبرولكن صديقي “إرنست فيشنر” قرأ 7000 صفحة من ملفات البحث أي من كافة ملفات الأشخاص الذين قد يكون”أوسكار باستيور” تجسس لحسابهم. لقد كان مخبرا مابين سنة 1961 و 1968. لقد وجدنا له ستة تقاريرسابقة ومعظمها غيرمؤذ فهناك أناس قد كتبوا عشر تقارير في الأسبوع، لقد تم إجبار “أوسكار باستيور” في هذه المسألة والحقيقة أنهم وجدوا بعض قصائده عن المعسكر وتم وصفها بأنها تدعو إلى التحريض ضد السوفييت، فتم سجنه بهذه التهمة.كما أنه لو لم يوقع على التعهد بالعمل معهم لكانوا ألقوا القبض عليه وتم حبسه مرة ثانية وقد كان لا يستطيع تحمل ذلك مجددا.
جريدة شبيغل: أنتِ دائما واضحة عندما يتعلق الأمر بالدكتاتورية وعملائها. والآن، عندما تعلق الأمر بتورط أحد الأصدقاء، صار موقفكِ مغايرا، كيف تفسرين ذلك؟.
هيرتا مولر: لا أتراجع عن أي موقف. لقد كان رجل استخبارات ولكنني أريد أن أظل إنسانة في أحكامي ونحن نعلم أن هناك أنواع عديدة من المخبرين. هناك نوع ليس لديّ تجاههم مليمترمن الشفقة والحديث هنا عن أولئك الذين يحررون طوعا تقارير كل يوم وكل أسبوع. كانت هناك في بعض المقالات عن “أوسكار باستيور” شماتة و أنا أعتقد أن هذا تصرف ليس مناسبا ويؤدي أيضا إلى العدم. و بهذه الطريقة لا يمكننا الاقتراب من الأمور و الحقائق.
جريدة شبيغل: نكون سعداء في السياسة إذا تمكنا من التعبير عن أنفسنا بحرية، حرية التعبير هي جوهر الديمقراطية. كيف تفسرين أن الدول التي كانت قادرة على تطوير الديمقراطية منذ الاضطرابات في أوروبا الشرقية – رومانيا و روسيا و أوكرانيا و المجر – هي الآن بصدد الاستغناء عن هذا المكسب مرة أخرى؟
هيرتا مولر: يمكن وصف ما تفعله الحكومة الديمقراطية الاجتماعية في بوخارست بالوقاحة. في الواقع، هناك بقايا للحزب الشيوعي يريد أن يحمي الحكام الفاسدين في صفوفهم، بالإضافة إلى ذلك يتم تقويض سيادة القانون لكي يسيطر جنود الحزب على المؤسسات الهامة. إن الزمن يرجع إلى الوراء فكل طرف يريد أن يقرر كل شيء وحده. إن محاولات التلاعب في عدد الناخبين المؤهلين للمشاركة في الاستفتاء للتصويت عل الرئيس وتهديد القضاة الدستورية ليست سوى غيض من فيض من هذه القطعة المارقة، لا تمثل البلاد لهؤلاء أي شيء. لقد كانت المجر درسا، هناك رأوا كيف يلغي الفرد الديمقراطية والمخيف أنهم شباب. يبلغ “فيكتور بونتا” رئيس الوزراء الجديد 39 سنة وقد جعله “تشاوشيسكو” اشتراكيا، كما أن أطروحة دكتوراه منقولة إلى حد كبير أي أنه يتزين بشهادة جامعية وهمية أيضا، إن الغش جزء من الوعي.
جريدة شبيغل: لقد عدتِ إلى ألمانيا سنة 1987 أي قبل سنتين ونصف قبل تنفيذ حكم الإعدام ضد الديكتاتورالروماني “نيكولاي تشاوتشيسكو”، بعد ذلك حصلت على عدة جوائز أدبية. ما هو المصطلح الذي من شأنه وصف هذا التغيير في حياتك؟ الحظ السعيد؟
هيرتا مولر: لقد تغيرت الأمور دائما نحو الأفضل منذ قدومي إلى ألمانيا. كنت أعيش من الكتابة – لم أكن أتصوركل هذا الخير، أتذكر انذاك حين وصلت كنت صغيرة ومكسورة و كل ما معي حقيبة فقط، أنا في ألمانيا دائما قادرة على العمل وهذا ما أحتاجه داخليا، هذه هو الحظ السعيد، أليس كذلك؟
جريدة شبيغل: هل ستكون هذه هي مادة روايتكِ المقبلة؟
هيرتا مولر: لا أحد يعرف، و أنا “لا أحد”.
جريدة شبيغل: “سيدة مولر”شكرا لكِ على هذا اللقاء.
(*) حاورتها “سوزان ميلر” في برلين
رابط الصفحة: http://www.spiegel.de/spiegel/print/d-87908042.html