هل كان محمد بن عبد الكريم الخطابي انفصاليا؟

رشيد راخا

رئيس التجمع العالمي الأمازيغي

 

يتساءل الكثير من الناس هل كان محمد بن عبد الكريم الخطابي انفصاليا..

هذا البطل الذي قاد أكبر ثورة في عشرينيات القرن الماضي، واجه خلالها اثنتين من أكبر القوى الاستعمارية الأوروبية، ويتعلق الأمر بالاستعمار الفرنسي والاستعمار الاسباني، تعرض الريف حينها للقصف بالأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا.

 

لكن يبقى السؤال المطروح دائما، هل كان محمد ٍبن عبد الكريم الخطابي انفصاليا أم لا؟ والمقصود هنا هل كان عبد الكريم يسعى لاستقلال الريف عن المغرب.

 

الخطابي وحرب الريف التحريرية

 

يتحدث كتاب “عبد الكريم الخطابي وجمهورية الريف” الصادر عن دار “ماسبيرو” سنة 1976، عن تاريخ كبير صنعه فلاح صغير من جبال الريف، حيث استطاع الخطابي مواجهة دولتين قويتين، وقام بتأسيس دولة حديثة، في تلك المرحلة، وقام بإصلاحات كبيرة في الريف، وتمكن من توحيد قبائل الريف، التي كانت دائما في حروب أهلية منذ سقوط الأندلس. وخلال هذه المرحلة استطاع عبد الكريم بناء دولة حداثية عن طريق خلق شبكة للمواصلات بين قبائل الريف، وخلق دينامية اقتصادية واجتماعية، بعد حصار دام طويلا من طرف إسبانيا من الجزر والمدن الشمالية، وبلاد المخزن من الجنوب.

فكثيرون يعرفون عبد الكريم الخطابي فقط كمقاوم للاستعمار الإسباني، من خلال معارك “حرب العصابات” التي خاضها ضد الإسبان في مختلف مناطق الريف الكبير، من وجهة عسكرية، لكن ما لا يعرفونه، أن محمد بن عبد الكريم الخطابي كان رجل دولة وسياسة، استطاع توحيد قبائل الريف المتناحرة، وأسس جمهورية أمازيغية، على غرار تجربة الثورة التركية، حيث كان عبد الكريم قد تأثر بتجربة مصطفى كمال من خلال عمله في تحرير جريدة “تلغراما الريف” التي كانت تصدر بمليلية، والتي كانت تنقل أحداث الثورة التركية التي حملت مبدأ فصل الدين عن الدولة، إضافة إلى كون “مولاي موحند” قاضيا للقضاة بمليلية، ومدرسا للغة الأمازيغية هناك.

وتم سجنه سنة 1915 بسبب تعاطفه مع ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وجاء السجن بإيعاز من السلطات الفرنسية، التي كان نفوذها السياسي يمتد إلى غاية منطقة الحماية الإسبانية شمال المغرب، والتي اتهمت محمد بن عبد الكريم بالتخابر مع ألمانيا. حيث سجن الخطابي في سجن روسطروغوردو بمليلية، وحاول الفرار مرات عديدة، دون جدوى، وكسرت ساقاه في إحدى هذه المحاولات. مكث في السجن 11 شهرا قبل أن يطلق سراحه ويعود لمزاولة مهنة القضاء في مليلية.

في هذه المرحلة، تولد لدى الخطابي وعي وإحساس بالاضطهاد الاجتماعي والسياسي الذي كان يولده الاستعمار لدى المغاربة، وشرع بربط علاقات مع معارضي الوجود الاستعماري بالمغرب، في المنطقتين الإسبانية والفرنسية، ليعود بعد ذلك إلى الريف حيث قام بضم قبيلته إلى بقية قبائل الريف (تمسمان، أيت وليشك، أيت توزين…) لمواجهة الاستعمار الإسباني.

والهدف من استعراض هذا التاريخ، هو الرد عن الجارة الجزائر التي سعت مؤخرا لاستغلال هذه المحطة الكبيرة من تاريخ الريف، من أجل تحريض الريفيين عن الانفصال وإثارة الشغب في بلدهم المغرب.

ويا للمفارقة التاريخية! فقبل قرن من الآن قامت السلطات الاستعمارية في الجزائر بالاستعانة بحفيد الأمير عبد القادر الجزائري من أجل تحريض قبيلة إكزناين الريفية، التي كانت خاضعة للنفوذ الفرنسي آنذاك، ضد عبد الكريم الخطابي، إلا أن خطتهم هذه باءت بالفشل، ونجح الخطابي في توحيد قبائل الريف وبناء مجمع قبائلي ريفي، وأسس بذلك دولة عصرية، كانت مصدر إلهام لمختلف الحركات التحررية عبر العالم، بما في ذلك الثوار الجزائريين الذين أسسوا الحركة الوطنية سنة 1927، مباشرة بعد استسلام عبد الكريم، بقيادة مصالي الحاج.

 

المعرفة في مواجهة الخوف والجهل

 

دأبت جريدة “العالم الأمازيغي” منذ تأسيسها سنة 2001 على نشر ملفات تاريخية، وتنظيم ندوات حول تاريخ الريف ومقاومة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وأسست بمعية عدد من المؤرخين ونخبة من المثقفين الريفيين بالرباط، مجموعة للبحث حول محمد بن عبد الكريم الخطابي، واستطاعت بذلك تبديد الجهل والخوف ونشر معرفة واسعة حول المقاومة الريفية.

 

إلى أن جاء الاعتراف الرسمي بتاريخ جمهورية الريف من طرف المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب لأول مرة في موسوعته “تاريخ المغرب”، وجاء فيها: “لقد قام محمد بن عبد الكريم الخطابي بتوظيف نجاح المقاومة وإعطائها بعدا جديدا حين أدرك أنه لا ينبغي أن تقف حركته عند طرد المستعمر، وإنما عليها أن تعتمد إصلاحات في أوساط القبائل الريفية، كما تستلزم ذلك شروط المواجهة وتحقيق الانتصارات انطلاقا من توحيد القبائل بغية إخضاعها لسلطة مركزية واحدة حسب رأييه، وفي اعتقاده فإن ذلك لن يتأتى إلا باحتواء التوترات القبلية وإلغاء بعض العوائق التي كانت مصدر صراعات داخلية، مثل عمليات الثأر والثأر المضاد، مع تنظيم العلاقات على المستويات الداخلية والخارجية، وضبط المعاملات المالية والقضائية والإدارية. وعلى الرغم من التعاطف الذي حظيت به مقاومته، فإن الخطابي كان على وعي تام بأن تحقيق هذه الأهداف لن يتأتى إلا بإقامة مؤسسات وأجهزة كفيلة بملء الفراغ الذي أحدثه انهيار سلطة المخزن المركزية، من جهة، وضعف السلطة الاستعمارية نتيجة هزائمها العسكرية من جهة أخرى، وعلاوة على المحضور الحربي، فإن الخطابي قد أقام إدارة ممركزة تتضن مجموعة من المؤسسات اللازمة لتنظيم شؤون القبائل وتسييرها، فعين وزراء وقياد وقادة حرب وقضاة وما إلى ذلك”.

 

ينضاف إلى ذلك تدخل الملك محمد السادس من أجل الترخيص للندوة الدولية التي نظمتها جريدة العالم الأمازيغي بشراكة مع مؤسسة “عبد الكريم الخطابي” يومي 28 و 29 يوليوز 2004 بالحسيمة حول “لجوء محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مصر: الأبعاد والدلالات الوطنية والدولية”، ومساهمته في إقامة أشغالها، بعدما رفضت السلطات المحلية السماح بانعقادها.

 

أما المؤرخة والباحثة الإسبانية، المتخصصة في تاريخ حرب الريف، ماريا روسا دي مادارياغا، فقد ذكرت في حوار لها مع مجلة زمان، عدد 15 – مارس 2015، أن عبد الكريم الخطابي لم يكن أبدا انفصاليا، وقالت في جوابها على سؤال الصحافي مروان الجزولي: كيف تفسرين أن الخطابي خلق جمهورية ولم يعلن نفسه كالآخرين سلطانا؟ لماذا أيضا جمهورية بالريف، وهل كان ممثلا لتوافق وطني في الريف؟، قالت: “وجدت في الأرشيف وثائق تؤكد أن عبد الكريم الخطابي حاول أكثر من مرة بعث رسائل إلى السلطان ليدعوه إلى المشاركة في المقاومة ضد الاحتلال. ويظهر أن هذه الوثائق لم تصل أبدا إلى وجهتها، إذ اعترضت سبيلها السلطات الفرنسية توجد أيضا، كتابات متأخرة، تفيد أن عبد الكريم الخطابي عبر عن استيائه من المؤسسة الملكية. في نظري أن عبد الكريم كان يعتقد أن نجاح حركته رهين بالدعم الذي يمكن أن يتلقاه من المغرب كله. مصطلح الجمهورية استعمله، في كل الاحتمالات، صحافي أمريكي. وإذا تبناه عبد الكريم فإنه كان يريد، بدون شك، ممارسة الضغط على السلطان. ولم يتضمن خطابه، في أية لحظة، بعدا انفصاليا”.

 

وبالتالي فالهدف من تأسيس الجمهورية الريفية كان هو لم الشمل وتوحيد الريفيين من أجل المضي قدما في تحرير بقية الأراضي المغربية، وهو ما حدث بالفعل عندما دخل الخطابي في حرب نظامية على الحدود الجنوبية، فكانت أكبر المعارك التي خاضها محمد بن عبد الكريم الخطابي هي تلك التي واجه فيها فرنسا سنة 1924، إذ بالرغم من كون الجنرال ليوطي قد تنبأ منذ معركة أنوال إلى حجم التهديد الذي يشكله عبد الكريم الخطابي على التواجد الاستعماري بالمنطقة ككل، ففكر بإقامة حدود من أجل حصار الثورة الريفية، ومنع امتدادها إلى المنطقة الجنوبية، فقام بإقامة الحصون والحاميات العسكرية على امتداد الشريط الرابطة بين تاوريرت، صاكا، وتازة فاس، رغم ذلك فإن كل هذه القلاع والحصون لم تصمد في وجه المد الريفي الذي لم يتوقف إلا على بعد 25 كيلومترا من مدينة فاس، حيث لم يشأ عبد الكريم أن يدخل المدينة نظرا لما يتطلبه تسيير المدينة من نخب عالمة، حينها فقام المارشال بيتان، بتحريك حوالي 44 جنرال، وأزيد من 500 ألف جندي بينهم مجندين مغاربة وجزائريين وأفارقة، لم تحركها فرنسا حتى في أكبر معاركها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.

 

جيش التحرير ودوره في استقلال المغرب والجزائر

 

لقد شكلت قبيلة كزناية الكبرى إلى جانب قبائل إقليم الناظور، بقيادة عباس لمساعدي، النواة الأولى لجيش التحرير، وكان لها الدور الحاسم في استقلال المغرب من الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى مساهمتها في الحركة التحررية الجزائرية.

 

وقد كان للمقاوم الإفريقي، الخضير الحموتي، الذي وسم تاريخ جيش التحرير في شمال إفريقيا، دور أساسي في تمويل الثوار بالجارة الشرقية، بالمال والسلاح، بعدما وضع رهن إشارتهم سفنه وعلاقاته التي كان يملكها في إسبانيا وجبل طارق، لخدمة المقاومة ضد الاحتلال، إضافة إلى أنه عمل على فتح بيته لزعماء التحرير.

 

أما مسألة اغتيال عباس لمساعدي، فقد أصبحت واضحة، لأن المدة التي مرت على الحدث إضافة إلى عدد من النقاشات والدراسات التي همت الموضوع، كفيلة بتوضيح أنه تم اغتياله بأوامر فرنسية بسبب دعمه للمقاومة الجزائرية، وتأكيده على أنه لن يضع السلاح إلى أن تنال دول المغارب استقلالها.

 

رغم ذلك فإن جهود جيش التحرير لم تتوقف عند هذا الحد، بل ساهمت في خلق فكرة جيش التحرير بالجنوب المغربي للتصدي لمؤامرات الاحتلال الإسباني في الصحراء المغربية، وأنعشت آمال كثير من المقاومين والمتطوعين الذين أصروا على عدم وضع السلاح قبل تحقيق حلم الوحدة الترابية والسيادة التامة للمغرب على أراضيه.

 

وعقب الاستقلال، دشن محمد الخامس علاقاته بالمنطقة التي آوت المقاومين وأطلقت شرارة التحرير بزيارة إلى مدينتي تازة والناظور يومي 14 و15 يوليوز 1956، إشارة تقدير وشكر لساكنة المنطقة ولأعمال جيش التحرير، وتفقدا لأماكن قياداته الميدانية وعملياته النوعية، ثم دعا إلى تأسيس القوات المسلحة الملكية، مما عجل في تفكيك خلايا وتشكيلات جيش التحرير بالريف والشمال وانضمام كثير من عناصره إلى الجيش الوطني.

 

وقد ساهم الريفيون كذلك في حرب الرمال سنة 1963، عندما سعت القوات المغربية لاسترجاع منطقتي حاسي البيضاء وتنجوب اللتان هاجمهما الجيش الجزائري سابقا، في المقابل اندفعت القوات الجزائرية غرباً نحو حدود مدينة فيكيك. ودامت العمليات القتالية أياماً معدودة قبل وقف إطلاق النار في فبراير 1964.

 

إضافة إلى انخراطهم بقوة في المسيرة الخضراء من أجل تحرير الصحراء المغربية، وقيادتهم للجيش المغربي في مواجهة جبهة البوليزاريو. كل ذلك يدل على أن الريفيين وحدويين، ودائما في المقدمة دفاعا عن الوطن.

 

وقد سعت الجزائر منذ هزيمتها في حرب الرمال إلى النيل من المغرب، من خلال دعمها لجبهة البوليزاريو وتمويلها للاتحاديين في المغرب ومحاولاتهم الانقلابية بمعية الجنرال أوفقير، لتصل مؤخرا لاحتضان أقلية قليلة من الانفصاليين الريفيين بالمهجر، الذين أضروا كثيرا بصورة حراك الريف، وتسببوا في اعتقال قياداته بتهم الانفصال.

 

الخطابي والهوية الأمازيغية للمغرب

 

لقد أسس عبد الكريم الخطابي لبناء مشروع سياسي قوي ينبني على الهوية الأمازيغية، حيث كان هذا الأخير مولعا باللغة الأمازيغية، وكان أول مدرس لها، ولطالما دافع عنها وكان معتزا بها في كل تصريحاته الإعلامية، وحتى عندما قام سنة 1922 بمراسلة عصبة الأمم من أجل الاعتراف بدولته، قال “بلادنا تشكل جزءا من إفريقيا، ومع ذلك فهي تشكل جزءا منفصلا بصورة واضحة عن الداخل، وكذلك تختلف لغتنا بصورة بينة عن اللغات الأخرى، المغربية أو الإفريقية أو سواها”، مما يدل على أن محمد بن عبد الكريم الخطابي كان يعتمد على قضية اللغة من أجل تحديد هوية بلده.

 

أما الآن، بعد أن أصبحت اللغة الأمازيغية رسمية في الدستور المغربي، فقد تحقق هذا الحلم لعبد الكريم الخطابي، الذي كان يسعى لوجود دولة في شمال إفريقيا تكون الأمازيغية لغتها الرسمية، لقد تحقق ذلك في دولتين هما المغرب والجزائر، حيث يمكن اعتبارهما دولتين أمازيغيتين، كما يشير إلى ذلك الفصل الخامس من الدستور المغربي عندما أكد أن اللغة الأمازيغية رصيد مشترك لكل المغاربة بدون استثناء، إضافة إلى إقرار رأس السنة الأمازيغية عيدا وطنيا بكل من المغرب والجزائر، في إشارة صريحة للهوية الأمازيغية لكلا البلدين.

 

وقد كان محمد بن عبد الكريم مهندس حرب التحرير، أكثر من مجرد مجاهد إسلامي، كما هو الشأن بالنسبة للمجاهدين الذين سبقوه، كما يبدو ذلك واضحا في رسالته حيث قال إن الريفيين مستعدون وقادرون على إطالة أمد القتال ضد الإسباني المسلح الذي ينوي سلب حقوقهم، وفي نفس الوقت فقد فتحوا أبوابهم لاستقبال الإسبان بدون أسلحة من تجار وصناع وعمال ومزارعين. ولولا إرادة وقرار محمد بن عبد الكريم، لكانت قبائل الريف ارتكبت جرائم أكبر في حق الإسبان. لأن بن عبد الكريم لم يوافق قط على مذابح الجنود الإسبان الذين استسلموا في جبل العروي من قبل قبائل آيث بو يحيى، كما تمكن من تجنيب الإسبان مذبحة أخرى بمليلية، من خلال إرسال ستمائة مقاتل بقيادة أخيه امحمد الخطابي إلى جبل كوروكو لمنعهم من عبور حدود بني انصار، وحماية المدنيين في مليلية.

 

والخلاصة من مواقف وتصريحات الخطابي، هي أن الرجل وحركته التحررية: مشروع فكري متجدد، ورؤية خاصة إلى الريف والمغرب والعالم، والهدف من مشروعه التحرري إعادة ترتيب واقع الهوان أمام الاستعمار، والتفكير طبقا لمعطيات العصر وفي لحظة تاريخية معينة، في التأسيس لمقاربة إنسانية جديدة، قوامها الحوار والتواصل والتفاعل، خدمة لحق الشعوب في الحرية والكرامة والعيش المشترك.

 

الملك محمد السادس والمشروع التنموي بالريف

 

يجب في البداية الإقرار أن الدولة المركزية لم تكن في علاقة جيدة مع الريف، خاصة بعد أحداث 58 – 59 وخلال فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، فقد كانت العلاقة متوترة بين ملك البلاد وساكنة منطقة الريف، صاحبتها أجواء من الخوف والترقب، ما أدى إلى تهميش المنطقة، وحرمانها من أي مشروع تنموي، وبدلا من ذلك كان هناك تشجيع للشباب على الهجرة نحو أوروبا، ما أدى إلى استقرار أجيال من الريفيين في كثير من الدول الأوروبية.

 

لكن بمجرد اعتلاء الملك محمد السادس للعرش، بدأ صفحة جديدة في تاريخ منطقة الريف، فكانت أول منطقة يزورها مباشرة بعد توليه الحكم، وقد أولاها أهمية كبيرة في الجانب التنموي، كما أكد على ذلك في خطابه الذي ألقاه بالحسيمة عقب زلزال 2004، وقال: “سنقف شخصيا سواء من خلال المتابعة الموصولة أو الوقوف في عين المكان على حسن انجاز البرنامج الاستعجالي واعتماد المخطط المتوسط والبعيد الأمد الكفيل بجعل منطقة الريف التي نوليها عنايتنا الفائقة قطبا للتنمية الحضرية والقروية في جهة الشمال مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني”.

كما أكد أن “على هذا المخطط الذي ينبغي أن يرفع إلى نظرنا السديد في أقرب الآجال أن يتضمن مشاريع مضبوطة في أهدافها ووسائل تمويلها وآجال انجازها وتقييمها لتمكين المنطقة من التجهيزات الأساسية المائية والكهربائية والطرقية الكفيلة بفك العزلة عنها وربطها بالشبكة الوطنية عبر محور فاس – الحسيمة والإسراع بإنهاء المدار الطرقي المتوسطي”.

 

وأكد على ذلك في رسالته الموجهة إلى المشاركين في الندوة الدولية التي نظمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان سنة 2011، بمدينة الحسيمة، حول موضوع: “التراث الثقافي للريف: أي تحافة؟”، وقال: “يطيب لنا أن نتوجه إليكم في افتتاح هذه الندولة الدولية، حول «التراث الثقافي بالريف: أية تحافة؟» التي أضفينا على انعقادها بمدينة الحسيمة رعايتنا السامية؛ لما توليه من أهمية بالغة لحماية الرصيد الثقافي والتاريخي والتراث، الذي تزخر به منطقة الريف، ومدينة الحسيمة الأثيرتين لدينا، واللتين يحظى أهلها الأشاوس بسامي عنايتنا، وسابغ عطفنا”؛ وأضاف أن تنظيم هذه الندوة يضفي عليها بعدا حقوقيا هاما، يؤسس للدور الرائد، الذي يقوم به المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي تم الارتفاء به إلى مؤسسة الدستورية، وذلك في إطار الاختيار الديمقراطي الوطني، والمرجعية الكونية، “التي اعتمدناها لحماية حقوق الإنسان، والنهوض بها ببلادنا”؛ مضيفا “وهنا نؤكد على ضرورة إيلاء ما يلزم من الاهتمام، لحفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة، باعتبارها لبنة أساسية على درب استكمال بناء المجتمع الديمقراطي، الذي نعمل جميعا على توطيد أركانه، وصيانة مكتسباته، بموازاة مع تدعيم مصالحة المغاربة مع تاريخهم، وتجاوز شوائب الماضي، تحصينا لحاضرهم، ومواصلة لانخراطهم، بعزم وثبات، في ورش الإصلاح الديمقراطي والتنموي الشامل”.

 

وبالتالي فمقارنة بسيطة للريف بين الأمس واليوم، كفيلة أن توضح لنا حجم التنمية والإقلاع الاقتصادي الذي حققته هذه المنطقة من خلال توفير البنية التحتية من طرق سيارة وسكك حديدية وموانئ، إضافة إلى مشاريع اقتصادية ومستشفيات، ومؤسسات تعليمية تربوية وجامعية.

 

هيئة الإنصاف والمصالحة.. توصيات مع وقف التنفيذ

 

بالرغم من الأهمية الكبيرة للتوصيات التي خرجت بها هيأة الإنصاف والمصالحة من أجل جبر الضرر وحماية ذاكرة الريف، إلا أن المؤسسة الساهرة على تنفيذ هذه التوصيات، وعلى رأسها، الحقوقية الريفية أمينة بوعياش، لم تقم بواجبها، ولم تحقق شيئا من هذه التوصيات وهي كالتالي:

 

· إدراج دراسة تلك المرحلة كأولوية من أولويات برنامج عمل معهد تاريخ المغرب الموصى بإحداثه؛

· متابعة الاتصالات مع عائلة عبد الكريم الخطابي قصد دراسة شروط إعادة رفاته إلى الريف حسب رغبة العائلة والأقارب؛

· إنشاء مركز الأبحاث عبد الكريم الخطابي؛

· اعتبار منزل عبد الكريم الخطابي معلمة تاريخية؛

· ترميم منزل عبد الكريم الخطابي واستعماله كمركز تاريخي للتعريف بشخصية عبد الكريم وكمركز سوسيو ثقافي؛

· إنشاء مؤساسات جامعية بالريف؛

· خلق مشاريع اقتصادية بالمنطقة…

وهي نفسها المطالب التي خرج من أجلها الريفيون للاحتجاج في مسيرات حراك الريف، ومن أجل التذكير بالوعود التي جاءت بها هيأة الإنصاف والمصالحة.

 

كما يشير إلى ذلك الباحث الأنتروبولوجي الريفي، الدكتور محمد شطاطو، في مقال بعنوان “الريف متمرد لكنه ليس انفصاليا”، أنه على الرغم من الخدمات الكبيرة التي تقدمها منطقة الريف للوطن، فقد تم تهميشها من طرف الرباط. لتجنب مثل هذا الموقف، من الضروري اتخاذ الخطوات التالية بشكل عاجل:

· حوار شامل مع جميع مكونات الريف؛

· إطلاق سراح معتقلي الحراك؛

· اعتماد مخطط اقتصادي للريف على غرار مشروع مارشال؛

· نقل الصناعات إلى الريف لخلق فرص عمل للشباب؛

· إنشاء مجموعة فكرية مكونة من باحثين ومثقفين من منطقة الريف لتقديم الدراسات اللازمة عن المنطقة (علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الثقافة، الاقتصاد، الهوية القبلية، إلخ).

 

هذه هي مطالب الريفيين، واضحة جدا، ولم يطالبوا أبدا بانفصال عن المغرب، كما هو الشأن بالنسبة لعبد الكريم الخطابي، الذي لم يطالب يوما بانفصال الريف عن المغرب، طيلة حياته بالقاهرة، منذ وصوله سنة 1947 إلى غاية مماته في السادس من فبراير 1963، أكثر من ذلك، فقد قضى طيلة هذه المدة في دعم المقاومة والوحدة في مواجة الاستعمارين الإسباني والفرنسي بكل من المغرب، الجزائر وتونس.

 

‘ ميثاق تمازغا ’ من أجل بناء اتحاد مغاربي قوي

 

ومساهمة في هذا الحلم الوحدوي المغاربي، طرحنا مبادرة أطلقنا عليها اسم “ميثاق تمازغا” من أجل كونفدرالية ديمقراطية واجتماعية عابرة للحدود، مبنية على الحق في الحكم الذاتي للجهات”، الذي يتضمن تصور التجمع العالمي الأمازيغي لنظام فيدرالي محكم بشمال إفريقيا،

 

وتتضمن هذه الوثيقة السياسية المشروع المجتمعي لشمال إفريقيا، الذي اعتمد من طرف ”التجمع العالمي الأمازيغي“ المجتمع في الملتقى العام التأسيسي ببروكسيل في ديسمبر 2011، والذي تمت الموافقة عليه في المؤتمر السابع لأمازيغ العالم بتيزنيت في ديسمبر 2013، كما أعيد النقاش عليه في مؤتمر إفران أواخر نونبر 2015، وتولي أهمية أكبر لسياسة التسيير الإداري الذاتي للجهات، والمعروفة باسم الديمقراطية التشاركية، وذلك باعتماد حكم ذاتي في جميع جهات تمازغا، مع احترام الحدود السياسية لكل دولة، سيرا في ذلك على نهج الاتحاد الأوروبي الذي يضمن لمواطنيه حرية التنقل والاشتغال في جميع دول الاتحاد.

 

فبخلاف الاتحاد الأوروبي الذي يستمد قوته من 27 دولة، تشكل قوة اقتصادية وبشرية كبيرة، تقوم دول شمال إفريقيا المتشبعة في غالبيتها بالقومية العربية، بتشديد القبضة على الحدود السياسية الوهمية التي وضعها الاستعمار، بطريقة جيومترية، في إقصاء تام للمعطيات القبلية والعلاقات الإنسانية المشتركة بين شعوب بلدان شمال إفريقيا، بل أكثر من ذلك وصل الأمر بدولة الجزائر الجارة لتأييد قيام كياني بعثي عروبي على أرض شمال إفريقيا بالجنوب المغربي، مع العلم أن هذه العقلية البعثية للقومية العربية خلقت العديد من العراقيل للتنمية بالمنطقة في جميع مستوياتها، لا البشرية لا الثقافية ولا الاقتصادية، وهكذا ظل الاتحاد الأوروبي ينمو ويتطور أكثر فأكثر، مقابل تخلف بلدان شمال إفريقيا وتقهقرها، ودخول أبنائها في حروب أهلية، كما هو عليه الحال في ليبيا.

 

وقد أدى هذا التباين الاقتصادي والاجتماعي بين ضفتي المتوسط، بكثير من سكان شمال إفريقيا إلى الهجرة بحثا عن شروط حياة أفضل، وذلك بالرغم من الثروات الهائلة التي تتوفر عليها بلدان هذه المنطقة، والتي باستطاعتها، إذا ما تم ترشيد استغلالها، أن تحقق إقلاعا إقتصاديا حقيقيا، ليس على مستوى شمال إفريقيا فحسب، وإنما على مستوى القارة الإفريقية بأكملها.

 

إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه في ظل هذه الأنظمة المركزية، اليعقوبية، التي تحكم بلدان شمال إفريقيا، بل ولتحقيق ذلك يجب تمتيع كل جهة بحكمها الذاتي، وأحسن مثال على ذلك نموذج الجهوية السياسية الألمانية، كما كان قد أشار إلى ذلك الملك الراحل الحسن الثاني، حيث عرفت ألمانيا تقدما كبيرا على مستوى الديمقراطية التشاركية، والإشراك الفعلي للمواطنين في تدبير أمورهم، وكذلك مثال الدولة الإسبانية، التي كانت إلى عهد قريب في وضعية ليست أفضل من المغرب، إلا أنه بفضل الديمقراطية التي دافع عنها المواطنون الإسبان، وانتزاعهم لدستور ديمقراطي يضمن للجهات تسيير أمورها بنفسها، وتشكيل حكومات جهوية، حققت هذه الدولة الجارة قفزة تنموية كبيرة في كل المجالات.

 

ويستند ميثاق تامزغا على حلم محمد بن عبد الكريم الخطابي الرامي إلى تحرير وتوحيد كل البلدان المغاربية، ويستند على المعاش التاريخي للمجتمعات الأمازيغية وإرثها الجماعي، المبنية على القيم الكونية للكرامة الإنسانية والحرية والمساواة والتضامن التي لا تقبل التجزؤ، كما تستند على مبدأ الديمقراطية التشاركية الفعالة والحقيقية، وعلى مبدأ تكريس واحترام سيادة القانون.

 

وفي الأخير نذكر بمقولة للمؤرخ الهولندي باولو دوماس، مفادها: “كيف يمكن لبيروقراطي في الرباط أن يعرف مشاكل فلاح في جبال الريف”، وبالتالي فلا بديل عن الحكم الذاتي من أجل تحقيق تنمية حقيقية بالريف، ويضيف المؤرخ فيما يتعلق بقبول الدعم من الجهات الخارجية، أنه يجب على سكان الريف والقبايل بالجزائر التفكير مليا في الأمر؛ “لأنهم مجرد وسيلة ذات استعمال وحيد، يمكن التخلص منها عند خوض مسابقة جيوسياسية من مستوى الأعلى”.

كما حذر المؤرخ الهولندي وفق ما أورده الباحث الريفي الشاب ياسين أكوح عبر دراسته في هذا الشأن بعبارة؛ “تعتبر الحركات الانفصالية في كلا البلدين بمثابة الخيانة العظمى التي تستخدم الحكومة ضدها كل الوسائل، ويمكن أن يكون الدعم الأجنبي ذريعة إضافية لإحباط الحركة، وبلوغ مستوى الحكم على قادتها بأحكام ثقيلة”.

ختاما أدعوا جميع أبناء وبنات الريف للتأثر بفكر محمد بن عبد الكريم الخطابي، والتحلي بروح المواطنة والانفتاح على دول الجوار، والتخلي عن الأفكار التي لا تخدم وطننا وتاريخنا المشترك، والمساهمة بدلا من ذلك في تنمية منطقتهم، واستقطاب مشاريع استثمارية من شأنها تحقيق إقلاع اقتصادي شامل، ومنه إتاحة فرص شغل لشبابنا.

 

أنظر رابط المحاضرة باللغة الأمازيغية:

 

 


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني