علقم النبوغ المبكر
شذرات من القراءة النقدية لرواية “خوف” للأديب أسامة المسلم
الحسين بوخرطة
تخيل أيها العربي عالماً تسيطر عليه بقبضة من حديد خطط ودسائس ومكائد الجن بشقيه الكافر والمؤمن والشياطين. تصور أنك تعيش في بيئة تعادي الآدمية وقيم الاستخلاف أرضا. ألا تختنق من إجبارية الالتزام بالصمت بذريعة ايهام نفسك بوصولك إلى مراتب النضج والحكمة والتبصر؟ أليس وراء انزوائك وعزلتك وتخليك عن واجب التدافع هو مصلحة ذاتية غير مشروعة أو “خوف” بأبعاد هلاك مروعة؟ ألا يصيبك الهلع على مدى الساعة مقاوما المتربصين بك والمراقبين لأقوالك وأفكارك وتحركاتك؟ ألا يصيبك الهلع أكثر عندما تعتبر نفسك أنك تحت مجهر مراقبة حكومة بلادك وأجهزة القوى المنتصرة التي تطمع في إنهاء إعادة كتابة مجلدات وسجلات التاريخ بمنطقها الخاص بعيدا عنك وعن أمثالك؟ ألا يخاطبك ضمير الجرأة فيك وأنت تتابع تفشي اعتماد أساليب القمع الغرائبية لإغلاق كل منافذ محاولات التفكير الإنساني الحر؟ ألا تكتئب عندما تلوث مسامعك قولة “الفلسفة مشأمة”؟ ألا تمتعض من انجذاب الأهالي للتفاهة والعبث وابتعادهم عن واجب الدرابة العقلية واليدوية لتطويع الطبيعة والحفاظ عليها وتحقيق تراكم الإنتاج المحسن لأنماط العيش؟
تساؤلات وأخرى داهمتني وأنا أقرأ رواية “خوف” بأجزائها الثلاث من أولها إلى آخرها للأديب السعودي أسامة المسلم. فعكس ما قيل ويقال في شأنها، أعتبرها من الأعمال الأدبية التي تستحق القراءة والتأمل. امتزج فيها الواقع بالخيال لإنتاج الرمزية والدلالة. عبر الكاتب عن فكر الشباب بدون أن يروج للفردانية كما فعل الفيلسوف الألماني نيتشه. أبعاد الرواية وكأنها دعوة لإعادة بناء السياسة عند العرب. بقي الكاتب في عمق المجتمع ولم يتخطى التاريخ مبرزا الأهمية القصوى لمفهوم التكيف في هذا الزمن الصعب بأهدافه وكائناته المخيفة. وبذلك فهو لم يختر مواجهة الكون بما فيه وبما ليس فيه.
اضطر السارد (الإنسي) وشخصياته العيش في عالم غرائبي يستخدم تقنيات متطورة وخارجة عن المألوف لمراقبة الأفراد، والتحكم في المعلومات، وتفشي الخداع والضغينة، وقمع أي تمرد… عبارة المدخل “لماذا تأخرت…تذكر قبل أن تدخل أنك لن تخرج…” تم انتقاؤها لتتصدر أفكار وأبعاد فصول الرواية لزرع الخوف في نفس القارئ. دخول عالم التدافع بآلية التكيف الفاعل اعتبره الكاتب، بالرغم من مخاطره ومعاناته المضنية، واجبا من واجبات الانتماء الترابي، وفي نفس الوقت وفاء لأمانة الوجود الفردي في دار الفناء. عشرية السبعينات اعتبرها السارد مرحلة هامة بالنسبة للمجتمع السعودي. لقد ولد مبتسما بدون أن يطلق صرخة البكاء الطبيعية المعتادة المميزة لولادة البشر أرضا. إنها ابتسامة الاستعداد لاستقبال الحياة بمنطق الفعل وفرص الحظ المفتوحة في بلاد مسقط رأسه. لقد اعتمد الكاتب الواقعية مؤكدا منذ البداية أن دوافع كتابة الرواية أو السيرة الذاتية لا تستهدف تصنيف فئة من مجتمعه أو عزل فئة دون غيرها. في نفس الآن يبقى هذا التصنيف والوعي بمعتقدات وعادات المجتمع ذا أهمية بالغة للأدباء والمفكرين. لقد اعتبر السارد ذلك من أهم أوراق الاعتماد لضمان نفاذ الفكرة الذكية في أذهان الأفراد والجماعات خاصة فئة الشباب اليافع المتطلع للعيش في عالم أفضل.
ابتسم له الحظ في لحظة ولادته. هاجر مع أفراد أسرته إلى أكبر وأعظم وأقوى دولة في العالم. تعلم لغة العلوم، الإنجليزية، كلغة أولى تملكت الزعامة في مسار قيادة الفكر الليبرالي الرأسمالي. التسلح بالأدوات الفكرية اللازمة في ظرف وجيز مكنه من التميز في بلاده بعد عودته إليها وهو لم يتجاوز السنة السادسة من عمره. امتعض من أحكام القيمة الصادرة عن أبناء بلاده. لقد اعتبروا مرارا وتكرارا أمريكا عالم فسق، ولغتها لغة كفر.
لقد فضح الكاتب تعمد التكرار التعسفي المضني لإلباس الأفكار الشعبية حلل بدع سوداء تم التعسف لإلصاقها بالدين الإسلامي. لقد قدم تشخيصا دقيقا للوضعية الثقافية للعرب المسلمين بشكل عام وللشعب السعودي بشكل خاص. ذكرنا هذا الامتعاض بما وقع لابن رشد. فبقدر ما ربط عشرية السبعينات من حياة السعوديين بأمل التغيير، بقدر ما سارع بأحداث روايته لدق ناقوس خطر ينبئ بزوال مكانة العرب العلمية. بكى تلميذ ابن رشد وهو يتابع الجمهور مبتهجا والنار ملتهبة تحرق كتب معلمه بدون أن يطلع المتجمهرون على مضامينها ورسائلها.
ذكرنا أسامة في روايته بعبارات شبيهة بجواب ابن رشد لتلميذه حيث قال “إذا كنت تبكي حال المسلمين، فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعا، أما إذا كنت تبكي الكتب فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها … “. سقطت الأندلس يوم أحرقت كتب ابن رشد وبدأت نهضة أوربا يوم وصلتهم أفكاره. التكيف الذي عجز ابن رشد على تحقيقه، يطرحه أسامة المسلم من خلال روايته بشكل جديد وبأسلوب سهل وسلس في العشرية الثانية والثالثة من القرن الواحد والعشرين. الإسلام، إسلام إبراهيم عليه السلام، ينبني على ثلاثة مبادئ أساسية أولها الاعتقاد بوحدانية الله والإيمان باليوم الآخر والقيام بالعمل الصالح، فتطورت الأوضاع والشعائر إلى أن جاء الإسلام المحمدي بأركانه الخمس. تطورت الممارسات المرتبطة بالمصالح، فاختنقت القيم الإنسانية الأصيلة ذات الأبعاد الزمانية التي تمتد إلى زمن الجاهلية، ونشأ إسلاما موازيا بمنطق المتمشيخين. الرواية التي بين أيدينا هي بمثابة بحث عن عقلانية بمنطق حماية الوجود العربي في الحاضر والمستقبل. من لا يعرف لن يصمت، بل سيجادل ويخالف شاهرا سيف موروثه الذي أصبح في حد ذاته عائقا للعمل النهضوي والتنويري. المعركة لنصرة العقل مستمرة. المعركة كما نظر لها ابن رشد هي في حد ذاتها بحث مستمر لجعل الحكمة مناصرة للنظر في الأشياء حسب ما تقتضيه طبيعة البرهان. إنها الكفاءة التي تحرص بكل السبل على انتقاء النافع في التراث وتيسير الانفتاح على تطورات الحضارة البشرية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
عاد “خوف” إلى بلاده طفلا، فرسخ في الصفحات الأولى من روايته معنى التنشئة التي تستحقها الشعوب. احتضنه الحظ، فشد الرحال إلى بلاد العم سام، فتكونت لديه شخصية مغايرة لأبناء جيله. احتضنه الحظ عندما شاءت الأقدار أن يكون مولودا لأب متعلم وأسرة رَبها مرتبط بالعلم والكتب والسياسة والنماء. تعطل التلفاز. انبعثت مقومات نشأته في أمريكا التي علمته معنى تدبير الوقت في حياة الإنسان. لم يخرج إلى الشارع للعب مع أقرانه لوأد الفراغ وما يثيره من ملل (لتجاوز ألم ثلاث أيام موحشة). صعد إلى الطابق العلوي من منزل الأسرة، فعثر على ما أسماه بالكنز الثمين. ارتبط بالمكتبة حتى سن العاشرة. كل يوم يركب على بساط سحري يجول به العالم ومستجدات كشوفاته المعرفية والعلمية. أوضح للقارئ بالحجة والبرهان الأهمية القصوى للغة الإنجليزية بالنسبة للأجيال المتعاقبة. بواسطتها ألم بتراكم التطورات العلمية والتدبيرية الكونية إلى درجة وجد نفسه في فضاء تعليمي في بلاده لا تستجيب مقرراته لحاجياته التكوينية.
الفضاء الذي ترعرع فيه الكاتب/السارد (أمريكا وأسرة متعلمة) مكنه من تحقيق التميز. بجانب أب جمع أهم ما يميز الحضارة الأمريكية من معارف وعلوم تمكن السارد من تحقيق الارتباط بين القراءة والعلوم والفنون (الموسيقى)، وتحقيق النبوغ المبكر لشخصيته. لقد بين في حبكته السردية كيف يُكرس التمييز عربيا مبرزا أسبابه، وكيف تشكل الفئات المجتمعية، منها ما يصنف أفرادها من الفاعلين والزعماء (الأقليات)، ومنها الفئة الأغلبية (قاعدة الهرم الثقافي) المشكلة من التابعين المستسلمين بدون وعي ورغما عنهم للالتحاق بسلاسة بما تمت تسميته ظلما وعدوانا ب “القطيع”.
بتنشئة طفولية غربية واضحة المعالم، تمكن السارد من الاستفادة مما تذخره مكتبة الأب من كتب ومجلات وأسطوانات وأقراص موسيقية. بإشارته إلى مسألة “الحقيبة الدبلوماسية السوداء”، التي تمكن من فتحها والاطلاع على محتواها، أفشى الكاتب للقارئ سر وجودي يتعلق بأبعاد مآلات التنشئة الصحيحة للأجيال. بالمعرفة وتراكماتها عبر التعليم والقراءة في فضاءات التنشئة، يتحول الفرد المستهدف إلى فاعل ملم بأوضاع وطنه ومتطلباته، وفي نفس الآن واع بالتحديات والرهانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية.
وبذلك، يكون كل من راكم المعارف في ساعات حياته منذ طفولته يتحول مع مرور الأيام إلى منظر في الشؤون الثقافية والمخططات الجيوستراتيجية للقوى العالمية. التنشئة الديمقراطية في الغرب بمؤسساتها المتعددة والمتنوعة تطمح بشكل رسمي وعلني لتحقيق ادماج كل أفراد المجتمع في فئة الخاصة بدون تمييز. في حين التنشئة العربية ما زالت تقاوم ثقافيا وسياسيا مبدأ المساواة وتساوي الفرص، بحيث ينتج عن منطق بلورتها وتفعيلها فئتين مجتمعيتين بوساطات ضعيفة عاجزة على تعزيز الثقة في أدوارها ووجودها، الأولى يمكن نعتها بالفئة المحظوظة (الزعامات القيادية في السياسة والثقافة والاقتصاد)، والثانية بالتابعة (القطيع) بأفكارها السطحية التي تخضع بسرعة فائقة لخطابات الزعامات السياسية والعقائدية الاستغلالية البعيدة كل البعد عن متطلبات الحاضر والمستقبل.
التراكمات المعرفية التي حققها “خوف” جعلته واعيا بمتطلبات وجوده في بلاده. التمييز واللامساواة في التنشئة أنتجت واقعا معقدا. لم يجد نفسه منجذبا للمؤلفات المحلية وكأنه يناصر التوجه الفكري لعبد الله العروي الذي دافع بالحجج والبراهين عن حاجة المجتمعات العربية لتبني مفهوم “القطيعة المنهجية مع التراث”. في سياقات تعبيره عن صعوبة تكيفه مع الأوضاع الثقافية السائدة في المملكة العربية السعودية، بقي السارد عازما على التشبث بالأسلوب الغربي وقوة طروحاته وعقله المختلف، والبحث عن آليات التكيف مع واقعه بمنطق الفاعل الطامح لتحقيق غد أفضل لمجتمع انتمائه. في هذا الصدد، أفشى الكاتب حقيقة هامة للغاية حينما قال على نفسه أن له عقل مختلف، لكنه ليس بالضرورة الأذكى. هناك أذكياء كثر من أبناء وطنه، لكن ظروف تنشئتهم وثقافة محيطهم لا تمكنهم من تغيير مسار حياتهم ووعيهم الثقافي. باح بوضوح تام بفشل السياسات العربية في مجال إنتاج أجيال المستقبل.
أخرجته أمه إلى المجتمع بخرافاته وأساطيره. تعجب لامتثالها لضغوطات الأقارب. أصابته علة المعدة التي لم ينفع معها دواء نظرا لطبيعة آلامها التي امتزج فيها القصور البدني بالنفسي. التكيف مع الأوضاع الهشة ثقافيا وماديا صعب ومعقد للغاية. نبوغ عقله المبكر أدخله إلى فترات حياة بمتاعب مضنية. ضَغَط المحيط القريب والبعيد، فأخضعته أمه لبركة الشيخ الذي لا يجيد إلا التمتمة والبصق في وجه المرضى وفي قارورة الزيت بمقابل مادي سخي. راكم السارد ما يكفي من المعارف لإتقان عمليات تحليل الشخصيات. تعجب لأمه التي جالت العديد من الدول المتقدمة كيف استسلمت للتعاطي للخرافة.
لرسم لوحة قاتمة عن واقع السعوديين في تلك الفترة، قابل الكاتب بين وعيهم الثقافي ومستوى تعليمهم وتكوينهم وظروف عيشهم الهشة (السكن في دور من طين متهالكة). وصف تفاصيل ظروف الاستقبال في مقر الدجال. قاعة الانتظار مكتظة بالنساء والأطفال، والمدة الزمنية الكافية للوصول إلى الشيخ طويلة. إذا كان النساء الأكثر لجوء للدجالين في الماضي، فقد أصبحوا اليوم يمثلون أكثرية قراء روايات الكاتب الغرائبية. في نفس الآن، لم يترك الكاتب الفرصة تمر بدون التعبير عن ضعف قيم التحضر عند المجتمع السعودي خلال العقود السبع الأولى من القرن العشرين. لم تجد أمه من وسيلة للوصول إلى الدجال بسرعة سوى تقديم الرشوة للوسيط (VIP). الدولة السعودية موقفها واضح. الدجل يعاقب عليه القانون. توقفت الأم عن زيارة المتمشيخ الدجال، وعندما سألها بطل الرواية (ابنها) عن السبب لم يجد لديها من جواب سوى كون الشرطة قد اعتقلته.
شدد الكاتب عن وجود ارتباط وثيق بين التخلف والخوف. هذا الأخير، كلما ازدادت قساوته، كلما جرد الخائف الضحية من العقل ومن كل وسائل الدفاع عن النفس. إنه السلاح الذي بنى عليه ذلك المشعوذ مشروعه الدجلي، ممكنا إياه من ابتزاز الناس (النساء) في أموالهم بالباطل، وأحيانا في أعراضهم. مجتمعاتنا العربية الإسلامية لا زالت تمجد ثقافيا وفنيا الدجل والتفاهة والخطابات الكاذبة جاعلة منها المصدر الرئيس للاغتناء وتراكم الثروات بدون علم أو جهد. إنها المعضلات التي تهمش بقساوة وعنف كبيرين الأفكار النيرة والسلوكيات القويمة البناءة والعلوم النافعة لحياة الأفراد والجماعات. تتطور الإنسانية غربا، وتتوسع الهوة بيننا وبينهم كل يوم، ويزداد منطق عيش أغلب أفراد المجتمع العربي كسادا وقساوة بفعل تجذر التعودات الحيوانية التي ترتبط أكثر بالغرائز الطبيعية مغيبة العقل الذي يميز البشر عن باقي الكائنات في الكون. باستغلال البدع الدينية الخرافية، يتمكن المتمشيخون من التفنن في ارتداء عباءات تعطيهم الصلاحيات والشرعيات والحصانات التي يحتاجونها لشرعنة وجودهم السياسي والثقافي والمادي.
استمر البطل يتخبط مع هذه الأوضاع المتعبة إلى أن بلغ العشرين من عمره. بقي دائما منشغلا بتحليل الأوضاع ومركزا على تطورها ووقعها، الشيء الذي مكنه من تراكم الكفاءة في مراقبة أفراد مجتمعه من حوله. خُمُس قرن من حياته (عشرون سنة الأولى) مكنه من الإحاطة من كل الجوانب بنظرية “الخوف” بإشكالياتها ومسبباتها وتداعياتها. دخل مرحلة اليافعين بقدرة عالية لمناقشة الناس والأقران بالمنطق العقلاني مبررا لهم كون الثقة العمياء التي يهبونها للمتنكرين بعباءة الدين هي مصدر لوأد غريزة الحذر والشك التي تعتبر من أساسيات البقاء عندكم.
استمات البطل بكل ما امتلكه من نبوغ عقلي مبكر في الدفاع عن حاجة المجتمع لتنوير العقول، لكن تأثير اللحية والثوب القصير ورائحة دهن العود كان قويا ومتجبرا. تشبث بالأمل مشرئبا بكل جوارحه أفق تغيير نمط تفكير أبناء بلاده اتجاه المتمشيخين الماكرين في السياسة والدين. استمر في تحقيق مشروع تكيفه مع الأوضاع متمسكا بمفاهيمه ومبادئه متقنا تجاهل من اختار أن يكون جاهلا. عبر بوعي عميق في مرحلة دراسته بالجامعة (مبكرا) أن المجتمع يعاني سوء الفهم لمعنى الفهم. أحكام القيمة أصبحت عملة رائجة مستفحلة في مجتمعه. تقويم عقول الأشخاص يتم قبل أن يتفوهوا ولو بكلمة واحدة، وتتوالى تصنيفات أخلاقهم بدون التعامل معهم. إنه نظام غريب لم يقرأ عنه بطل الرواية من قبل في أي كتاب. تعرض للهجوم المنهجي والاعتباطي عندما استشهد في بعض أحاديثه بأينشتاين بحيث تم وصفه باليهودي الغبي. اعتبر الاعجاب بشخصية هيتلر، الذي تشبث ببرهنة تفوق الجنس الآري رغم التفوق الذي حققته دول فرنسا وإنجلترا وأمريكا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، هراء وفسقا. التعامل مع الآخر المقبول اجتماعيا وثقافيا في بلاده يجب أن يتم في إطار القولة “هم الضالون ونحن الناجون”. كل شيء خارج جغرافية الوطن السعودي لا يجوز التعامل معه إلا بالازدراء والمقت ولو كان نافعا. الصداقة مع أصحاب الديانات الأخرى خيانة للمنظمة التي ستدخل الجنة من أوسع أبوابها. مقاومة السارد لهذه الثقافة البالية جعلت محيطه ينعته غير ما مرة لأسباب ليست دينية بالزندقة وازدراء الدين. لم يستسلم للمضايقات بشتى أنواعها. عاند الواقع مناقشا ومنتصرا للعقل مقنعا نفسه دائما أن متطلباته العقلية أكبر.
خُطَط رواد الدجل في مجملها عبارة عن مكائد ودسائس انتهازية قاتلة. الهجوم التقليدي اللاعقلاني هو سلاحهم المثبت لسلطتهم ومكانتهم المادية في المجتمع. لا يتعبون في ابتداع السبل والحيل من أجل التأثير على الجمهور ليلتفت للعاقل وإجباره لمعانقة اليأس على هامش الأحداث. استمر السارد في تواجده وتفاعله مع الأغلبية التي سماها بالغبية إلى أن وصل إلى اليوم الذي غير حياته. ترسخت قناعته بصعوبة التكيف مع المجتمع. تحول الشيخ من أقربائه ومنزله إلى منفذ للدخول في عالم الغرائب. يصمد ويتفاعل. تحول مرارا إلى ضحية خيانة. لا يستسلم، ثم يقاوم مجددا. عاش المحن المضنية الواحدة تلو الأخرى إلى أن تحول في آخر المطاف إلى خبير منحته التجارب صفة المفاوض مع كبير شخصيات الرواية بأجزائها الثلاث. إنه الرجل الأنيق الذي كان من وراء عودة الشيطان “دجن” قرين الإنسي “نجد” من اليمن.
تجسد النهاية مصير من تجلد بكلل متشبثا بالصبر والعقل المعرفي والإبداع الأدبي. وهنا لا بد من التذكير بانجذاب “خوف” بأحمد شوقي. قد يتساءل القارئ لماذا امتعض البطل من المؤلفات المحلية وانجذب لهذا الأديب والشاعر الألمعي؟ الجواب في غاية السهولة. أحمد شوقي (1868-1932)، حسب الجزيرة نت، أديب استبق وعي الشعب المصري بعشرات السنين. أبوه كردي وأمه من أصول تركية. أدخلته جدته إلى قصر الخديوي إسماعيل الذي كانت تعمل فيه وصيفة. لقد كانت على قدر كبير من الغنى والثراء، فتكفلت بتربيته ونشأ معها في القصر. تابع دراسته في الحقوق في فرنسا ثم إسبانيا. قاوم بشعره الاستعمار البريطاني. استمر في ابداعاته وتكيفه مع تطورات الأوضاع في بلاده وفي العالم إلى أن بويع أميرا للشعراء العرب سنة 1927. كما يعتبر من أكبر المدافعين على المرأة قيد حياته. الأديب أسامة المسلم بدوره يعتبر المرأة العمود الفقري للمجتمعات، الشيء الذي جعله يميل لخيار جعل أبطال رواياته من النساء. إنهن بطلات من نوع خاص لا يمكن لأي عربي عاقل إلا أن يطمع في تكريس مقومات شخصيتهن المعبر عنها في الرواية في المجتمعات القطرية من المحيط إلى الخليج.
وأختم هذا المقال بأهم أبيات شعر أمير شعراء العرب:
• وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه … نازعتني إليه في الخلد نفسي.
• العلم يرفع بيتا لا عماد له … والجهل يهدم بيت العز والشرف.
• الناس صنفان موتى في حياتهم … وآخرون ببطن الأرض أحياء.
• إن الشجاع هو الجبان عن الأذى … وأرى الجريء على الشرور جبانا.
• قف دون رأيك في الحياة مجاهدا … إن الحياة عقيدة وجهاد.
• وما نيل المطالب بالتمني … ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا.
• وما استعصى على قوم منال … إذا الإقدام كان لهم ركابا.
• أحرام على بلابله الدوح … حلالٌ للطير من كل جنس.
• إن اليتيم هو الذي تلقى له … اُمَّا تخلت أو أبا مشغولا.