ذ_محمد أكعبور
مرشد ديني بالصويرة
باحث في الخطاب والإعلام الديني
تسديد من خلال تمهيد : التأصيل للتنزيل
أجمعت كل الأدبيات السياسية قديما وحديثا على إقامة السلطان وتوارثت الأمم على التوالي ذلك عهدا بعهد لخلافته النبوة في رعاية الدين ومضموماته من أسس متينة ومقاصد مرعية مكينة مكفولة للفطرة السليمة، وهي ذات حاملة للفكر المتنور بالتعبير المعاصر.
وإن من مقتضيات البيعة؛ السمع والطاعة عند من أقامها من الجماعة في المنشط والمكره فيما دعا إليه أمير المؤمنين المؤتمن على الدين وسياسة الدنيا به، حيث عروة وثقى بينهما لا انفصام لها تأسيا بالسياسة النبوية في العهد المديني.
إذ “يقوم النظام السياسي في المملكة المغربية، عبر تاريخها الإسلامي، على أن تنعقد البيعة لأمير المؤمنين، وقد نصت البيعات المكتوبة على أن أمير المؤمنين هو حامي الملة والدين، وتأتي هذه المهمة، على رأس المبادئ الكبرى، المعروفة عند الفقهاء بكليات الشرع، وهي حماية الدين والنفس والعقل والمال والعرض………….. فالدين أريد به أن يكون عنصر تعديل واعتدال.”[1] وما يضمن تلكم المفاهيم: التعديل والاعتدال؛ هو الحاكم لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف ويضمن الائتلاف.
لذلكم، يحق لأمير المؤمنين وفق هذه المقدمات الكليات المنطقية اتخاذ مساع تؤول في مجموعها لتحقيق مقاصد من حفظ كليات الدين داخل منظومة دينية منسجمة مرجعيتها في التخاطب الديني ؛ الدين الإسلامي السني الحنيف فإن البيعة تقتضي من جهتها لزوم الجماعة من خلال تمثل صور الطاعة والنصرة وذلك من منطلق التأييد والدعاء للسلطان وفي ذلكم وتحصيلا لثوابه الجزْل من قوله الفصْل؛ قال ابن تيمية رحمة الله عليه: “كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان”.
إن السلطان يسعى في شأن جماعته ودولته وأمته وإمارته عبر مبادراته الجلى مستندا لما ورد في تاريخ التشريع الديني ، والاجتهاد باب من أبوابه الكبرى بعد اكتمال الدين ، فإن من مستهدفات الاجتهاد ؛ رفع العنت والحرج والضيق والتخفيف عن المكلف إعمالا للنصوص الواردة للاتباع والعمل والتأسيس في ظل متغيرات ظرفية تطرأ قدرا.
في ذلكم السياق ، يتدخل الخطاب الديني ليواكب المرحلة الراهنية التي يعيشها المجتمع وتعرفها الأحوال من خلال ما يصيب الأمة من الأهوال من قلة الأموال فيسبب لهم ذلك مشقة وكلفة في الحياة ، فلا هم ينعمون بالحياة الطيبة التي وُعدوا بها جراء فرط من جانب ،وانطلاق من المكفول لرئيس الدولة من تدبير شؤون الرعية استنادا إلى الأدبيات المرعية وما ترسخ في منظومة الفكر الديني والاجتماعي والاقتصادي للمغاربة ، فإنه ولعهد قريب يحدثنا تاريخ بلادنا عن نظير الحدث الذي أدخل بشارة كبرى للبيت المغربي وذلك لما يحمله من قوة إشارة تضمن وحدة المجتمع المغربي في الأداءات الشعائرية وتخليد الطقوس الدينية والتقاليد الاجتماعية وقد عشنا فترات من قرارات ملكية رعت فيها حرمة الشعائر وضمنت سريان البشائر فبلادنا تمر من حين لآخر بمحطات يتبين فيها بالملموس ارتباط الخطاب الديني بالخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي ذلكم مورده في هاتين الوقفتين مع رسالتين في الموضوع :
الوقفة الأولى مع الرسالة الأولى :
الرسالة الملكية السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله حول الإمساك عن أضحية العيد لعام 1416ه وذلك يوم الجمعة 9 ذي القعدة 1416هـ موافق 28مارس 1996والتي تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية عبر شاشة التلفزة وأمواج الإذاعة الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري رحمه الله.
مما جاء في هذه الرسالة الأولى :
“وإننا بوصفنا أمير المومنين، وبحكم البيعة الشرعية التي في عنقنا، والتي من أسسها ودعائمها واجب حفظ الدين، في هذا البلد الأمين، سهرنا – شعبي العزيز منذ ولانا الله مقاليد أمرك، وجريا على سنن أسلافنا الميامين – على أن تبقى قواعد الإسلام وأركانه، وفروضه وسننه، مصونة في بلادنا لا يلحقها تفريط، ومحفوظة في بلادنا لا ينالها نقص أو تحريف أو تغليط، كما حرصنا على إحياء أعيادنا الدينية بما ينبغي لها من قدسية وتكريم، وجلال وتعظيم.”
وقد ضحى جدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته كما جاء في السنة ورد أنه ضحى بكبشين أملحين، فقال: هذا لنفسي، وهذا هن أمتي.
واقتداء منا بسنته صلى الله عليه وسلم وتمسكا بمنهجه، نهيب بشعبنا العزيز أن لا يقيم شعيرة ذبح أضحية العيد في هذه السنة للضرورة. وسنقوم إن شاء الله بأدائها نحن نيابة عنه، فنضحي عن نفسنا وعن كل واحد من أبناء شعبنا، إحياء لسنة نبينا، وعملا بأحكام شريعتنا.”
إن هذه الرسالة الملكية استحضرت سياقها : طبيعة المناخ الذي نتج عنه جفاف حاد وقلة وفرة المنتوج الحيواني ونتج عنه الغلاء والناتج الملحق تبعا ؛ هو النقص وهو ضرر محقق في حالة عمل تلك السنة المؤكدة استنادا للمبدأ العام في حفظ الكليات الدينية لأن ذلك من واجب حفظ الدين على المنهج المسنون .
الوقفة الثانية مع الرسالة الثانية الآنية :
الرسالة الملكية السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله يومه الأربعاء 27 شعبان 1446ه الموافق ل26 فبراير 2025م إلى شعبه الوفي حول موضوع عدم القيام بشعيرة ذبح أضحية العيد،والتي تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، السيد أحمد التوفيق، خلال نشرة الأخبار الرئيسية للقناة التلفزية “الأولى”.
وقد تضمنت هذه الرسالة الثانية الآنية من بين ما تضمنته:
1_ حرص أمير المؤمنين على التمكين الديني: استحضار المتغيرات
تحرص مؤسسة إمارة المؤمنين عملا بمقتضاها والمتعقب من مغزاها على تأمين الحياة الدينية للرعايا تيسيرا للمعاش وتأمينا للمعاد وذلك بفضل مبتكراتها وبرامجها وخططها تلو الأخرى في التنزيل الأمثل للحياة الدينة كما الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية باعتبار الخدمات الدينية خدمات مؤسساتية منوط أمرها لمؤسسة إمارة المؤمنين على الدوام على ما شهد به العلماء وأهل الفكر وحتى العوام.
“لقد حرصنا، منذ أن تقلدنا الإمامة العظمى، مطوقين بالبيعة الوثقى، على توفير كل ما يلزم لشعبنا الوفي للقيام بشروط الدين، فرائضه وسننه، عباداته ومعاملاته، على مقتضى ما من الله به على الأمة المغربية من التشبث بالأركان، والالتزام بالمؤكد من السنن، والاحتفال بأيام الله، التي منها عيد الأضحى، الذي سيحل بعد أقل من أربعة أشهر. إن الاحتفال بهذا العيد ليس مجرد مناسبة عابرة، بل يحمل دلالات دينية قوية، تجسد عمق ارتباط رعايانا الأوفياء بمظاهر ديننا الحنيف وحرصهم على التقرب إلى الله عز وجل وعلى تقوية الروابط الاجتماعية والعائلية، من خلال هذه المناسبة الجليلة. إن حرصنا على تمكينكم من الوفاء بهذه الشعيرة الدينية في أحسن الظروف، يواكبه واجب استحضارنا لما يواجه بلادنا من تحديات مناخية واقتصادية، أدت إلى تسجيل تراجع كبير في أعداد الماشية. ولهذه الغاية، وأخذا بعين الاعتبار أن عيد الأضحى هو سنة مؤكدة مع الاستطاعة”.
وهذه الرسالة المولوية هي الأخرى استحضرت في سياقها ذات الأبعاد في نظيرتها والناتجة عن متغيرات بناء على معطيات للخبراء المجاليين والمسؤولين القطاعيين تصب في مصب نقصان الماشية بسبب توالي سوء الأحوال المناخية وفقد القدر المقدور فنتج عن ذلك جفاف مس القطيع بالإضافة إلى كلفة المناسبة الدينية في سياق اجتماعي ملتئم ولما تقرر أن “القيام بها في هذه الظروف الصعبة سيلحق ضررا محققا بفئات كبيرة من أبناء شعبنا، لاسيما ذوي الدخل المحدود.”
ومن القواعد الفقهية المقررة، قاعدة؛”الضرر يزال” والضرر محقق لا محالة بتعبير الرسالة الملكية ونوعه النقص وهو الدفع لا الرفع، فالدفع قبل الوقوع والرفع بعد الوقوع ومخافة الوقوع واسئمانا للخلف من خلا النسل.
ومرد القرار المولوي إلى ” أسس شرعية متينة تستند إلى فهم سليم للدين، وإلى سنة عمل بها الرسول الكريم، وإلى سوابق تاريخية تؤكد على دور أمير المؤمنين ونيابته عن شعبه، في مثل هذه الظروف، للقيام بذبح أضحية العيد، وفق ما هو مقرر في السنة النبوية العطرة”.[2]
ونحن في سياق فهم وتفهيم وإفهام الدين للناس من خلال مشروع مولوي؛ وهو خطة تسديد التليغ _يرمي للمواكبة والمصاحبة الدينة وتوزيع عدالة التخاطب الديني للمغاربة بمختلف الأحياء والمداشر بقصد ترشيد تدينهم الذي لا غلو فيه ولا تطرف ولا تكلف ولكن به غنية ما يحقق لملقي مضامينه ومتلقيه منية، فإن الأمر يصدر ليطاع وفق المستطاع، والمستطاع وسط للناس كافة يسعهم ويسعفهم فلا يميزهم ولا يمايزهم .
2_ توجيه مولوي وجيه: الإذن في إقامة الشعائر وسريان البشائر
تختتم الرسالة المولوية هذه بجميل عبارات التخاطب الملكي لشعبه الوفي فترسم له خارطة الاحتفاء والاحتفال بسنن مؤكدات دينيا واجتماعيا وتربويا شكرا لله على نعمه الفضلى وأفضاله المثلى بمورد فصيح نصيح ” نهيب بك أن تحيي عيد الأضحى إن شاء الله وفق طقوسه المعتادة ومعانيه الروحانية النبيلة وما يرتبط به من صلاة العيد في المصليات والمساجد وإنفاق الصدقات وصلة الرحم، وكذا كل مظاهر التبريك والشكر لله على نعمه مع طلب الأجر والثواب.”
ومن تاريخنا الديني الحديث نتعلم أدبيات التخاطب الديني خلال الأزمات والنموذج من الرسالتين الموضوعاتيين :
وخلاصة القول إن الخطاب الديني صناعة يتطلب هندسة تحقق المقصد من بناء الأحكام على عللها وكما في كريم علمكم؛ الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
فمتى سيدرك المخالفون ذلك؟ ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
[1] أحمد التوفيق; حماية الملة والدين وآلياتها في المملكة المغربية www.habous.gov.ma
[2] www.hespress.com