إستقطاعات ترامب في الميزانية مقامرة ستُثير فوضى عالمية

بقلم: د. ألون بن مئير

يُمثل هجوم ترامب الشرس على المنظمات الدولية اعتداءً على كل فرد، فقيرًا كان أم مُقهورًا أم مُحتاجًا، والذين لا نجاة لهم إلا بالمساعدات الأمريكية. قسوة ترامب لا يمكن أن تُوصف إلاّ بأنها الأشدّ وطأة وقد تُلحق ضررًا لا رجعة فيه بمكانة أمريكا العالمية والتزاماتها الأخلاقية.

يصعب تقييم الآثار السلبية قصيرة وطويلة الأجل لاقتراح البيت الأبيض القيام بتخفيضات في ميزانية وزارة الخارجية والمنظمات الدولية الرئيسية والمؤسسات الدبلوماسية والأمنية الرئيسية – خفض ميزانية وزارة الخارجية والمساعدات الإنسانية العامة إلى النصف وإلغاء 90% من جميع الأموال المخصصة للمنظمات الدولية، بما في ذلك وقف تمويل حلف شمال الأطلسي (الناتو) والأمم المتحدة. وفي حين أن المراجعة الدورية لهذه المنظمات الدولية ضرورية لتبسيط عملياتها وخفض النفقات غير الضرورية، والحدّ – في بعض الحالات – من البيروقراطية المُتضخمة، فإن استبعاد جميع هذه المنظمات الحيوية دون مراجعة وتدقيق مناسبين يُعدّ قرارًا قصير النظر ومُضرًا للغاية بمكانة الولايات المتحدة الدولية. ولكن، من ناحية أخرى، ليس هذا مُستغربًا. ترامب في حالة هيجان، وليس هناك من يحذره من أن مثل هذه الأفعال المتهورة لا تؤدي إلا إلى تقويض المصالح والنفوذ الوطني والخارجي لأمريكا، والتي تفوق بكثير أي نفقات.

ولوضع قرار ترامب المتهور في سياق الميزانية السنوية للولايات المتحدة، بلغت المساعدات الخارجية في عام 2023 ما قيمته 71.9 مليار دولار، وهو ما يمثل 1.2% فقط – وهو مبلغ ضئيل – من إجمالي الميزانية الفيدرالية للولايات المتحدة في ذلك العام. ومع ذلك، سيكون لهذا التخفيض تأثير سلبي هائل على العديد من المؤسسات في جميع أنحاء العالم التي ستشعر بالآثار الوخيمة لهذه التخفيضات التعسفية في الميزانية.

تشمل هذه التخفيضات إغلاق بعثات دبلوماسية في الخارج وتخفيضات في الخدمات القنصلية، مما سيتسبّب في تأخيرات كبيرة للأمريكيين المقيمين في الخارج. سيواجه هؤلاء تأخيرات كبيرة في تجديد جوازات السفر ومعالجة التأشيرات، الأمر الذي سيعيق بشكل أكبر تقديم المساعدة الطارئة عند الحاجة. وسيكون لهذا أيضًا عواقب وخيمة أكثر في أوروبا وأفريقيا، حيث يخطط ترامب لعمليات إغلاق متعددة. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن إغلاق البعثات الدبلوماسية الأمريكية في المناطق التي تشهد صراعات كبيرة قد يعيق بشكل كبير جمع المعلومات من المصادر العامة، وهو أمر بالغ الأهمية لجهود مكافحة الإرهاب الأمريكية.

وإلى جانب ذلك، فإن ما يفوق المعقول هو عدم مراعاة البيت الأبيض التام لكيفية توتر العلاقات مع شركاء أمريكا الأوروبيين بسبب عمليات الإغلاق هذه، لأن الإنسحاب المدروس من المشاركة الأمريكية يقوّض الثقة، وهو أمر حيوي للحفاظ على علاقة دائمة وصحية. ومما يثير القلق أيضًا قصر نظر البيت الأبيض في قياس كيف ستفتح هذه التخفيضات الباب أمام الصين لتعزيز هيمنتها الجيوسياسية، وخاصة في أفريقيا وآسيا. علاوة على ذلك، ستؤدي التخفيضات المالية إلى تقليل برامج التبادل الثقافي بشكل جذري، وهي حيوية للحفاظ على شراكات طويلة الأمد.

ستتسبّب التخفيضات المالية للأمم المتحدة ووكالاتها في عجز نقدي فوري، الأمر الذي سيعطل المساعدات الإنسانية والبرامج الصحية. وقد شهدنا آثارًا مماثلة من إلغاء إدارة ترامب السابقة لتمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وكما صرّحت آبي ماكسمان، رئيسة منظمة أوكسفام أمريكا ومديرتها التنفيذية، قائلة “لا يوجد مجال واحد من مجالات التنمية والمساعدات الإنسانية لم تشارك فيه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”.

ستُوقف العديد من الوكالات ذات الأهمية الحاسمة، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية واليونيسف والأونروا، عمليات التطعيم والمساعدات الغذائية والإغاثة في حالات الكوارث. وهنا أيضًا، ستُسارع الصين وروسيا إلى ملء الفراغ وتوسيع نفوذهما في وكالات الأمم المتحدة، مما قد يُغيّر الإلتزامات والمعايير الدولية، لا سيما فيما يتعلق بحقوق الإنسان وتغيّر المناخ. بالإضافة إلى ذلك، ستُضعف التخفيضات في برامج الأمم المتحدة قدرتها على تنسيق الإستجابات للأوبئة أو النزاعات.

تُظهر المزيد من المراجعات للتخفيضات المقترحة أن تقليص عدد الموظفين الدبلوماسيين قد يُؤخر الإستجابة للأزمات لأن تسريح الموظفين المحليين، الذين يُشكّلون ثلثي موظفي البعثات، من شأنه أن يُقوّض بشدة الخبرة الإقليمية والقدرة على مواجهة التهديدات الناشئة مثل الأوبئة أو النزاعات.

قد تقاوم الدول الأعضاء في حلف الناتو سدّ فجوة التمويل مما يُعجّل بنشوب صراعات حول الإنفاق الدفاعي، في حين أنه سيُبطئ خطط التحديث الجارية للحلف واستعداده للإستجابة لأي أزمة غير متوقعة. وفي حال تطبيق التخفيضات، قد يسعى الحلف إلى إطار أمني مستقل، مما يُمزّق الوحدة عبر الأطلسي ويُقلّل من نفوذ الولايات المتحدة ودورها في تشكيل مهمة الناتو.

بالإضافة إلى ذلك، قد يُجبر وقف تمويل عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في دول مختلفة قوات حفظ السلام هذه على الإنسحاب، الأمر الذي سيُقوّض قدرات الإستجابة للأزمات ويُسبّب عدم الإستقرار، وربما تجدّد الصراعات. لطالما كان حفظ السلام الأممي نهجًا فعّالاً من حيث التكلفة، وقد تُجبر التخفيضات على تدخلات عسكرية أكثر تكلفةً لاحقًا. ومن المفارقات أن ترامب الذي لا يُريد اندلاع صراعات عنيفة جديدة أو إعادة إشعال صراعات قديمة خلال فترة رئاسته يُزيل أحد أهمّ الحواجز لمنع ذلك.

واعتبارًا من عام 2023، أثبتت بعثات حفظ السلام في 11 دولة، بما في ذلك قبرص وكوسوفو وجنوب السودان والهند وباكستان، فعاليتها القصوى في الحفاظ على السلام. في الواقع، لا تخدم هذه الإجراءات الجذرية المشؤومة أجندة ترامب “أمريكا أولاً”. إنه تناقض يبدو أن ترامب نفسه لا يفهمه أو يهتم بتسويته.

للأسف، ترامب، الذي يستمتع بإثارة الجدل، لا يدرك أن تفكيكه المستمر للوكالات الأجنبية والمحلية التي كانت تقدم خدمات لا تُقدر بثمن، تُنقذ أرواح الملايين، وتجنّب المجاعة الجماعية وتكبح الأمراض، في هذه الحالة تحافظ على السلام. إن فقدان أمريكا لمقعدها على رأس الطاولة يُشير إلى بداية تراجع الإمبراطورية الأمريكية. فمع كل أخطائها ونقائصها، كانت أمريكا أعظم إمبراطورية خيرية في تاريخ البشرية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتمكن أي دولة أو مجموعة دول من أن تحلّ محلّ أمريكا.

والأخطر من ذلك هو تجاهل ترامب التام لالتزامات أمريكا الأخلاقية. فالوفاء بالالتزامات الأخلاقية جعل أمريكا بارزة، وولّد الثقة والإحترام واليقين في سياساتها وأفعالها. ورغم أننا ما زلنا في المراحل الأولى من تقييم الضرر طويل الأمد الذي ألحقه ترامب بأمريكا، فإننا نشهد بالفعل رد الفعل العالمي الناتج عن تراجعه عن الإلتزامات الأخلاقية الأمريكية التقليدية.

للأسف، سيكون للامبالاة ترامب بالمحتاجين في الداخل والخارج أثرٌ مدمر على أولئك الذين يعتمدون على المساعدات الأمريكية. أما الأثر الأكثر إثارة للقلق فهو على المكانة الأخلاقية العالمية لأمريكا على المدى الطويل.

 


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني