من الذكاء ألا تسعى لإظهار ذكائك

 

الذكاء الهادئ والثقة بالنفس في خدمة القيادة الأكاديمية الفعّالة

بقلم: الدكتور محمد محاسن

 

ملخص

 

ليس الذكاء في كثرة الكلام، ولا في الاستعراض المستمر للمعرفة أو الإصرار المستمر والتدخل الملحّ على تصحيح آراء الآخرين، إنما هو في القدرة على التأني لقراءة المواقف بوعي واتزان، والتحكّم في الذات وضبط الرسائل التي يُرسلها القائد من خلال حضوره وسلوكه.

أعالج في هذا المقال مفهوم الذكاء الهادئ باعتباره نمطًا من القيادة الأكاديمية المتزنة التي تقوم على الثقة بالنفس، وضبط الصورة الذاتية، والتواضع المعرفي، والإصغاء الواعي. وأُبيّن أن القيادة الناجحة لا تُقاس بمدى ارتفاع الصوت أو كثرة التدخلات، بل بمدى الانسجام بين الفكر والسلوك، وبين ما يعيشه القائد في داخله وما يعكسه في محيطه.

الكلمات المفاتيح: الذكاء الهادئ – القيادة الأكاديمية – الثقة بالنفس – الصورة الذاتية – التواضع المعرفي – الإصغاء الفعّال – الذكاء الاجتماعي.

 

 

توطئة

 

في زمن يطغى فيه منطق الظهور والتفاخر والثرثرة المتكررة، يغيب عن فكرنا وسلوكنا أن الذكاء الحقيقي ليس في أن تُظهر ذكاءك لتُبهر الآخرين، بل في أن تعرف متى تُخفيه حتى تتمكن من حسن استخدامه.

فكم من قائد أكاديمي أضرّ به ذكاؤه حين جعله أداة لتأكيد الذات بدلا من أن يجعله وسيلة لبناء الثقة وتيسير التفاهم.

إن القيادة الأكاديمية، في جوهرها، ليست سباقًا لإثبات من هو الأعلم فالأعلم غير محتاج لإثبات ذلك، بل إنها سعيٌ إلى تمكين الآخرين من أن يُبدعوا في حضور القائد لا في غيابه.

إن الذكاء الهادئ هو أكثر أوجه الذكاء نضجاً، لأنه يُحوّل الطاقة المعرفية إلى وعي تواصلي يُنصت أكثر مما يتكلم، ويؤثر أكثر مما يُجادل.

 

1. من الذكاء المعرفي إلى الذكاء القيادي

 

يُفرّق دانيال جولمان (1995) بين الذكاء العقلي والذكاء العاطفي، مؤكّدًا أن النجاح في القيادة يعتمد أكثر على الثاني.

فالقائد الذي يصرّ على إظهار تفوقه في كل نقاش أو على التدخل المطرد لتصويب آراء زملائه، إنما يُضعف بفعله ذاك مكانته الرمزية لأنه يزرع التوتر ويقوّض الثقة.

أما القائد المتزن، فهو الذي يُدبر ذكاءه كما يُدبر طاقته: بوعي، وبتقدير لرؤية الآخرين ومقامهم وحساسياتهم.

هنا يتحول الذكاء من أداة لإثبات التفوّق إلى فنّ في التواصل القيادي، هدفه تحقيق الانسجام لا فرض الرأي.

 

2. التواضع المعرفي: ذكاء القائد الناضج

 

ليس التواضع ضعفًا، بل إنه تعبير عن النضج المعرفي. فالقائد الذي يدرك أن الحقيقة متعددة الزوايا، وأشكالها تتنوع بتنوع الأفراد، وأن رأيه ليس نهاية النقاش بل إنه مجرد جزء منه، ولا يمثل كل الحقيقة بل جزءاً منها ليس إلا، إنما يُمارس أعلى درجات الذكاء الاجتماعي.

فالتواضع المعرفي كما يعرّفه كل من فيرا رودريغيز لوبيز 2004)) هو “القدرة على الاعتراف بعدم الكمال المعرفي والانفتاح على أفكار الآخرين دون تهديد للذات”.

في البيئة الأكاديمية، يظهر هذا التواضع من خلال سلوك القائد وعبر طريقة تواصله وكيفية صياغة ردود أفعاله، فحري به أن يبدأ مداخلاته بالاعتراف بوجهة نظر الآخر – والاعتراف لا يعني القبول الأعمى بل إنه محاولة الاقتراب من عالم المخاطب وفهمه- كأن يقول : “رأيكم وجيه، يمكن أن نثريه معًا” بدلا من قوله: “رأيكم ضيق، والصحيح هو كذا وكذا …”.

بهذا الأسلوب، يُصبح التواضع أداة للتأثير لا للتنازل، ويُكسب القائد احترامًا يزيد من قوة تأثيره لا ترهيباً يحد ّ من هيبته.

 

3. البنية الداخلية للذكاء الهادئ

 

وراء كل سلوك قيادي متزن يمكن التمييز بين ثلاث ركائز نفسية تشكّل البنية الداخلية للذكاء الهادئ:

· الثقة بالنفس (Confiance en soi)

هي الشعور بالكفاءة الهادئة التي تُغني عن التباهي. فالقائد الواثق لا يحتاج أن يُقنع الآخرين بذكائه، لأن حضوره وحده يفي بالغرض.

والثقة، كما يشير إلى ذلك باندورا (1997)، تنبع من تجارب النجاح السابقة ومن وعي الفرد بقدرته على التكيف والتأثير.

· الصورة الذاتية (Image de soi)

وهي التمثّل الداخلي للقائد عن ذاته، كما يراها هو وكما يتخيل أن الآخرين يرونه بها.

فكلما كان هناك انسجام بين الصورة الداخلية والصورة الاجتماعية، قلّت الحاجة إلى التبرير، وازدادت المصداقية.

· الوعي الانفعالي (Conscience émotionnelle)

وهو القدرة على ضبط الانفعالات واختيار الاستجابة المناسبة. فالقائد الواعي بانفعالاته يختار الصمت أحيانًا لأنه يدرك أن الكلمة غير المتزنة قد تفسد حوارًا بأكمله.

هذا التوازن الداخلي يجعل القائد يعيش ذكاءه كحالة وجودية، لا كوسيلة استعراضية، ويمنحه هالة من الطمأنينة الهادئة التي تُشعر الآخرين بالأمان في حضرته.

 

 

4. الذكاء التواصلي: سلوك القائد في الميدان

 

يتجسّد الذكاء الهادئ في ثلاث سلوكيات قيادية مترابطة:

✓ الإصغاء الفعّال : إن المقصود بالإصغاء هنا ليس انتظار الدور في الكلام، بل فعل إدراك عميق يُعبّر عن احترام الآخر. الإصغاء يمنح القائد سلطة أخلاقية تفوق سلطة المنصب.

✓ التواضع المعرفي : ليس إنكارًا للخبرة بل توجيهها بخفة، كمن يقود الحوار لا ليثبت ذاته، بل ليكشف المعنى وكلما ساعد القائد على كشف المعنى على لسان الآخرين المعنيين كلما ضمن تملكهم له وانخراطهم وتفانيهم في بلوغ الأهداف.

✓ الصمت الواعي : إن الصمت يبقى قراراً تواصلياً، لا انسحاباً. إنه لحظة تفكير تُحَوِّل التسرّع إلى بصيرة ويمنحك حيزاً من الوقت للتفكير العميق فيمكن من تخير أنجع طريقة للتعقيب.

هذه السلوكيات الثلاثة تولّد ما يمكن تسميته بـ الذكاء التواصلي، أي تلك القدرة على بناء الحوار المؤثر دون ضجيج، وعلى تحقيق الحضور بالهدوء لا بالكلام.

 

 

5. الأثر المؤسسي للذكاء الهادئ

 

حين تتكامل البنية الداخلية والسلوك التواصلي، ينتج عن ذلك أثر مؤسسي ملموس:

– تتحول المجالس العلمية من ساحات جدل إلى فضاءات تشاركية.

– تُستبدل ثقافة التصحيح المضجِر المتبادل بثقافة الإثراء المتبادل.

– يصبح القائد الأكاديمي نموذجًا في الاتزان، يوفّر مناخًا من الثقة والطمأنينة.

الذكاء الهادئ هنا لا يُضعف الحضور، بل يرسّخ سلطة أخلاقية صامتة تُلهم أكثر مما تُخيف.

إنه جوهر القيادة التي تُمارس بالتأثير لا بالإكراه، وبالحضور لا بالاستعراض.

 

عود على بدء

 

من الذكاء ألا تسعى لإظهار ذكائك. لأن الذكاء الحقّ لا يحتاج إلى منبر ولا إلى إعلان.

إن أرقى مظاهر الذكاء في القيادة الأكاديمية هو أن تعرف متى تتحدث ومتى تصمت، متى تُبدي رأيك ومتى تُصغي، متى تقود ومتى تُتيح للآخرين أن يقودوا.

ذلك هو الذكاء الهادئ الذي يجعل القائد يعيش اتساقًا بين ذاته وصورته، بين فكره وسلوكه، بين سلطته وحكمته.

إنه الذكاء الذي يُنصت ليقود، ويقود ليُعلّم الآخرين كيف يصبحون أكثر إنصاتًا وإنسانية.

 


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني