بقلم :عبد الحكيم العياط
تعد تجربة الصين في تنمية المناطق المحيطة بالمستعمرة البريطانية السابقة هونغ كونغ نموذجًا يحتذى في التكامل الاقتصادي ودوره في الحد من الفروق المجالية بين المناطق الحدودية ، وقد أثارت زيارتي الأخيرة إلى مدينة شنتشن، التي تحولت من قرية صغيرة إلى مركز اقتصادي وتكنولوجي عالمي، الكثير من التساؤلات حول إمكانيات تطبيق هذا النموذج على مدينتي سبتة ومليلية. مثلما نجحت الصين في تعزيز العلاقة بين هونغ كونغ والمناطق المجاورة لها من خلال سياسات اقتصادية وتنموية مرنة، يمكن للمغرب النظر في استلهام هذا النموذج لتطوير المناطق المحيطة بسبتة ومليلية وربطهما بالاقتصاد الوطني مما يساعد في الأخير على استعادتهما.
تجربة شنتشن shenzhen : من قرية صيادين صغيرة إلى مركز اقتصادي عالمي
تُعد مدينة شنتشن مثالًا ساطعًا على كيف يمكن لتحفيز التنمية في المناطق الحدودية أن يساهم في تغيير ملامح الاقتصاد المحلي وتعزيز الوحدة الوطنية. بدأت شنتشن، الواقعة على الحدود مع هونغ كونغ، كمنطقة اقتصادية خاصة في عام 1980 في إطار استراتيجية الصين لتنشيط اقتصادها. وقد أُطلق مشروع تطويرها ضمن سياسات إصلاح اقتصادية واسعة، حيث خففت الصين القيود التنظيمية وجعلت المدينة منطقة مفتوحة للاستثمارات الأجنبية. وفقًا لتقارير البنك الدولي، تجاوز الناتج المحلي الإجمالي لشنتشن 480 مليار دولار عام 2022، بمتوسط نمو سنوي قارب 20% منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ساهمت السياسة الاقتصادية المرنة لشنتشن في جذب كبرى الشركات العالمية وأدت إلى إنشاء عدد كبير من الشركات المحلية ذات الشهرة العالمية، مثل هواوي وشاومي وشركة السيارات الكهربائية العملاقة BYDوهو ما مكّن الصين من تحويل المنطقة الحدودية إلى محرك اقتصادي ووجهة متميزة للاستثمار الأجنبي. وبفضل هذه الجهود، أصبحت شنتشن رمزًا للابتكار والنمو السريع، حيث يعيش فيها اليوم أكثر من 12 مليون نسمة يتمتعون بمستوى معيشي مرتفع، في مقابل قرية صيد صغيرة كانت مأهولة بآلاف فقط قبل إطلاق التجربة.
دروس من تجربة شنتشن قابلة للتطبيق في المغرب
لعل ما يميز تجربة شنتشن الصينية هو نجاحها في تحويل تحديات الموقع الحدودي إلى فرص اقتصادية كبيرة، وهو ما يمكن أن يشكل نموذجًا ملهمًا لتطوير مناطق مثل المضيق والفنيدق والناظور. ويمكن استخلاص عدة دروس من هذه التجربة:
1. إنشاء مناطق اقتصادية خاصة: كما أثبتت شنتشن، يمكن أن تكون المناطق الاقتصادية الخاصة بمثابة محرك للتنمية الاقتصادية، حيث توفر بيئة مرنة للاستثمار وجاذبة للشركات العالمية. يمكن للسلطات بناء مناطق اقتصادية خاصة حول سبتة ومليلية، مثل منطقة الأنشطة الاقتصادية بالفنيدق، لتصبح نقاط استقطاب للشركات المحلية والدولية، ولتطوير قطاعات التكنولوجيا والسياحة والخدمات.
2. الاستثمار في البنية التحتية: قامت الحكومة الصينية بتطوير بنية تحتية ضخمة لدعم نمو شنتشن، حيث شملت شبكة نقل متطورة، موانئ حديثة، مطارات دولية، واتصالات ذات كفاءة عالية. يمكن للمغرب اتباع استراتيجية مماثلة من خلال تعزيز البنية التحتية في المناطق المحيطة بسبتة ومليلية، وتحديث الموانئ مثل ميناء الناظور غرب المتوسط ، لتحسين ربط هذه المناطق بباقي أنحاء المملكة ودعم قدرتها التنافسية.
3. جذب الاستثمارات الأجنبية: من أهم الدروس المستفادة من تجربة شنتشن هو تبني سياسات مرنة لجذب الاستثمارات الأجنبية، عبر تخفيف القيود القانونية والضريبية التي تساهم في تعزيز جاذبية المنطقة للاستثمارات الدولية. وقد نجحت شنتشن في خلق بيئة استثمارية مشجعة للشركات العالمية عبر اعتماد نظام حوافز ضريبية وتوفير خدمات لوجستية متقدمة، ما جعلها وجهة رئيسية للمستثمرين.
4. التركيز على الابتكار والتكنولوجيا: أصبح الابتكار ركيزة أساسية في شنتشن، حيث جذبت المدينة شركات تكنولوجيا عالمية وساعدتها على النمو عبر بنية تحتية متطورة ودعم مالي وحوافز حكومية. يمكن للحكومة أن تتعتمد على تجربة شنتشن لتطوير قطاعات تكنولوجية محلية، عبر جذب شركات التكنولوجيا، وإطلاق مشاريع متعلقة بالصناعات التحويلية والخدمات اللوجستية.
تطبيق التجربة الصينية: التحديات والفرص
تطبيق نموذج شنتشن في المغرب ليس عملية سهلة، حيث يتطلب استثمارات ضخمة وجهودًا تنسيقية بين القطاعات الحكومية والخاصة. أحد التحديات الأساسية في تطوير المناطق الحدودية المحيطة بسبتة ومليلية هو التفاعل مع طبيعة الاقتصاد الغير المهيكل في تلك المناطق. وقد أظهرت الدراسات، مثل تقرير المندوبية السامية للتخطيط، أن حوالي 30% من سكان المناطق الحدودية يعتمدون على التهريب مع المدينتين، وهذا ما يستدعي تقديم بدائل اقتصادية مجدية للسكان من خلال خلق فرص عمل مستقرة، ومن أجل تنفيذ هذا النموذج، يجب اتخاذ عدة خطوات عملية يمكن أن تسهم في تحقيق التنمية الشاملة:
1. تعزيز الربط اللوجستي والاقتصادي: يمكن للمغرب الاستفادة من مشاريعه الضخمة كخطوة أولى لتعزيز اقتصاد المناطق الحدودية، على غرار ميناء الناظور غرب المتوسط وميناء طنجة المتوسط. ربط هذه المشاريع بالمناطق الحدودية سيعزز من كفاءتها ويحولها إلى مراكز اقتصادية رئيسية.
2. تحفيز الاقتصاد المحلي وتنويع القطاعات: يمكن تحفيز الصناعات المحلية المرتبطة بالسياحة والتكنولوجيا والصناعات التحويلية، ما يعزز من استقلالية اقتصاد هذه المناطق ويقلل من اعتمادها على القطاع الغير مهيكل. توفير بيئة قانونية وتنظيمية مشجعة للشركات الصغيرة والمتوسطة يُعدّ أمرًا أساسيًا لجذب الاستثمارات.
3. التعاون مع الاتحاد الأوروبي: لتطبيق هذا النموذج التنموي، يحتاج المغرب إلى بناء شراكات قوية مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية للحصول على الدعم المالي والتقني. هذه الشراكات يمكن أن تسهم في تعزيز البنية التحتية والخدمات العامة، بالإضافة إلى تطوير مشاريع تنموية توفر فرص العمل وتعزز الاستقرار.
وفي الأخير تُعد تجربة شنتشن الصينية نموذجًا يحتذى به لما يمكن تحقيقه من خلال تطوير المناطق الحدودية بطريقة مدروسة ومتكاملة. إن تطوير مناطق المضيق، الفنيدق، والناظور لا يقتصر على تحقيق منافع اقتصادية فحسب، بل يمتد إلى تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ السيادة المغربية على سبتة ومليلية، إن تجربة الصين في تنمية المناطق المحيطة بهونغ كونغ، خاصة من خلال نموذج شنتشن، تقدم دروسًا هامة للمغرب في كيفية تطوير المناطق الحدودية . إن زيارتي إلى شنتشن أكدت لي أن نجاح التنمية الإقليمية يحتاج إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وتسهيلات اقتصادية جاذبة للاستثمار، ونهج تكاملي يوازن بين الخصوصيات الاجتماعية والسياسية. لتحقيق هذا الهدف، على المغرب تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لضمان نجاح هذا النموذج التنموي الطموح، خاصة في ظل المنافسة الاقتصادية المتزايدة في منطقة المتوسط.



