بعيدًا عن الطابع الميداني البسيط لخبر استسلام ثلاثة مقاتلين من جبهة البوليساريو للقوات المسلحة الملكية المغربية بمنطقة كلتة زمور، تقف وراء هذه الخطوة دلالات أعمق بكثير مما يبدو على السطح، حيث تفضح حالة من الانهاك النفسي، والانفصال التدريجي عن الخطاب الانفصالي الجامد الذي ظلت الجبهة تفرضه لعقود على عناصرها.
فأن يتقدم مقاتلون نحو الجدار الأمني رافعين رايات الاستسلام، وسط منطقة يعتبرها الانفصاليون امتدادًا لخطوط “الجهاد التحرري”، فذلك يترجم عمليًا تحوّلًا دراماتيكيًا داخل بنية التنظيم، ويكشف عن درجة التآكل الداخلي الذي أصاب قناعات مقاتليه. وهذا التحول، وإن بدأ محدودًا في الظاهر، إلا أنه يحمل نذر تغييرات أكبر قادمة لا محالة.
فالتحول لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة سياق متشابك:
أولًا، حالة الإحباط المتزايدة داخل المخيمات، حيث تتدهور أوضاع العيش وتنعدم الآفاق أمام الأجيال الجديدة التي لم تعد مقتنعة بالشعارات الجوفاء المرفوعة منذ أكثر من أربعين سنة.
ثانيًا، الانكشاف المتواصل للحقائق أمام الرأي العام داخل المخيمات، سواء عبر وسائل التواصل أو عبر شهادات العائدين، الذين يؤكدون اتساع الفجوة بين الواقع المأساوي الذي يعيشه المحتجزون وبين الخطاب الرسمي للجبهة.
ثالثًا، نجاح المغرب في تعزيز إشعاع مشروع الحكم الذاتي كخيار وحيد وواقعي لحل النزاع، مع ما يحمله ذلك من جذب متزايد حتى في صفوف من كان يُفترض أنهم “خصوم ميدانيون”.
الاستسلام في وضح النهار، وبتسليم العتاد دون قتال، هو في جوهره رسالة سياسية أكثر من كونه معطى عسكريًا: رسالة مفادها أن جزءًا من مقاتلي الجبهة لم يعودوا يؤمنون بما يقاتلون من أجله، وأنهم يرون في المشروع المغربي ومؤسساته ملاذًا أكثر واقعية من الاستمرار في أوهام الانفصال.
وإذا أضفنا إلى هذا المعطى ما تشهده مخيمات تندوف من احتجاجات داخلية متكررة، وتململات صامتة داخل هرم القيادة نفسها، فإننا أمام صورة لجبهة بدأت تخسر قواعدها قبل أن تخسر معركتها السياسية والعسكرية.
باختصار، استسلام مقاتلي البوليساريو اليوم لا يجب التعامل معه كخبر عابر، بل كصفارة إنذار تؤكد أن عقارب الساعة داخل تنظيم الرابوني تتحرك بسرعة نحو تفكك بات اليوم أكثر قربًا من أي وقت مضى.
والمفارقة أن القيادة الانفصالية، التي ما زالت تتحدث بنفس اللغة الخشبية القديمة، تجد نفسها اليوم مكشوفة أمام معطيات ميدانية جديدة لا تستطيع إنكارها: الانشقاقات، الانهيارات النفسية، واستقالات القلوب قبل العقول.
إنها بداية النهاية، حتى لو حاولت أبواق الدعاية هناك، كما العادة، تغطية الشمس بالغربال.