الاستعداد للكوارث: نهج جديد مستوحى من حضارات قديمة

 

بقلم: د. يوسف بن مير
مراكش
تتخذ المملكة المغربية خطوةً حكيمةً ببناء 36 منشأةً لتخزين المؤن لتلبية احتياجات الشعب الملحة خلال الأزمات الشديدة في حال وقوعها، كما حدث مع زلزال عام 2023 المُروّع في منطقة الأطلس الكبير. يُمكن للمعرفة القديمة المُستمدة من القصة التوراتية لمجاعة مصر الكارثية أن تُساعد في توجيه الدول اليوم في استعدادها لتقلباتٍ مناخيةٍ مُهددةٍ وغير ذلك من أشكال عدم الاستقرار التي قد تحدث بعواقبَ مُدمرةٍ مفاجئة.

يُسلّط النقل الشفهي للمعلومات عبر آلاف السنين المُجسّد في المدراش الضوء على إرشاداتٍ مُفيدةٍ للاستعداد الفعال، وفي نهاية المطاف إنقاذ الأرواح أو حتى الحضارات. من الدروس الأولى الجوهرية أن تكلفة الإستعداد اليوم أقل من التكلفة التي ستُتكبد عند وقوع الكارثة. كان استعداد مصر قبل اجتياح المجاعة، في ظل استقرار نسبي للأسعار، عاملاً حاسماً في صمودها خلال فترة الندرة الشديدة وما صاحبها من ارتفاع في الأسعار.

كما تُشير التجربة المصرية التوراتية إلى أنه حتى مع تفسير يوسف الصحيح لحلم الفرعون وتحذيره المُسبق، جاءت المجاعة فجأةً كما لو أن مرحلة الوفرة السابقة لم تكن موجودة. حتى عندما نكون على دراية بكارثة وشيكة محتملة – كما هو الحال مع أزمة المناخ اليوم – فإن آثارها المدمرة تجعلنا نشعر كما لو لم يكن هناك إنذار مُسبق؛ فمهما كانت النعم موجودة، فإن نهايتها المُفاجئة قد تكون شديدة لدرجة أننا نشعر وكأن أوقات الوفرة لم تكن موجودة قط. وهذا يُؤكد على أهمية الاستعداد ومدى أهمية التدابير التي نتخذها قبل وقوع الأزمة. ففي النهاية، بمجرد وقوع الأزمة، يبدو ما سبق وكأنه قد انقضى ونُسي.

عانت مصر آنذاك من عدم تقدير الشعب للإجراءات الأساسية، وخاصةً تخزين فائض الطعام استعدادًا للكارثة الوشيكة. ولم يعترف الشعب بفضل يوسف إلا بعد أن أدرك الجميع أن بصيرة يوسف، بدعم من فرعون، هي ما أنقذهم. من الحكمة ألا يتطلع القادة اليوم إلى الامتنان مقابل تحضيراتهم المسبقة للأزمات، بل أن يوقنوا أن الأثر الحقيقي لتلك الاستعدادات لا يُدرك إلا عند اشتداد المحنة، وعندها فقط يظهر فضلهم ويُعترف بصواب رؤيتهم.

تفيد التفاسير المدراشية للتجربة المصرية القديمة بأن المجاعة لم تفرّق بين غني وفقير؛ الكل ذاق مرارتها دون استثناء. فبدلًا من الانغماس في الترف خلال سنوات الوفرة، فُرض على الناس الاكتفاء بالحاجات الضرورية، بينما كان يتم ادخار الفائض وتخزينه وجمع المؤن الأساسية للبقاء على قيد الحياة. وتبرز هنا حكمة جوهرية: الإفراط في الاستهلاك أثناء الوفرة يُضعف البنية الوقائية لمجتمعاتنا لجمع الموارد اللازمة للعيش والحفاظ عليها. فحتى وإن تم اتخاذ تدابير للتخزين، فإن الترف الزائد والاستهلاك غير المتزن خلال فترة الوفرة يُظهر آثاره السلبية فور حلول الندرة.

وقد اعتمدت مصر آنذاك نظاماً يقوم على فرض ضريبة ثابتة بنسبة 20% خلال فترة ما قبل الأزمة استعدادًا للكارثة. وقد ساهمت بساطة هذا الإجراء وشموليته في تسهيل تنظيمه ومراقبته، إلى جانب اعتباره إجراءً عادلاً ومقبولًا اجتماعيًا.

لم تقتصر جهود مصر في التخزين على نوع واحد من الحبوب، بل شملت مجموعة متنوعة من الأغذية والمواد الأساسية المحفوظة بطرق مبتكرة. إن تنويع المنتجات لتلبية الاحتياجات الإنسانية المختلفة يُعزز فرص النجاة، من خلال الحد من تقلبات الأسعار الشديدة وعدم الاضطرار إلى الإعتماد على منتج واحد أو حتى عدد قليل من المنتجات. كما يُشير النص التوراتي إلى أن إلى أن طرق تخزين المواد الغذائية كانت تختلف حسب نوعها، غير أن القاعدة العامة تمثلت في تخزينها بالقرب من أماكن الإنتاج لضمان الحفاظ على جودتها.

يمثل هذا النهج أحد الركائز الأساسية لاستراتيجيات الاستعداد للكوارث فيما يتعلق بالتخزين، حيث اعتمد المصريون على نظام محلّي لامركزي. كان لكل مدينة وبلدة مرافقها الخاصة. وقد أشرك تنظيم التخزين بهذه الطريقة اللامركزية سكان المناطق المجاورة في جمع وصيانة المرافق، مما قلل من احتمالية حدوث ذعر عند وقوع الكارثة. كما أن هذا النظام سمح لكل منطقة بحفظ منتجاتها باستخدام موارد محلية في عمليات التخزين، مثل مواد طبيعية ما تزال صالحةً للاستخدام اليوم، كالزئبق (كمادة طاردة للحشرات)، والتربة المالحة، والغبار، والرماد، ونشارة الخشب.

في كثير من الأحيان، كانت المخازن تُبنى تحت الأرض. ونظرًا للظروف المناخية التي يصفها العلماء، مثل الزيادة المتسارعة في القباب الحرارية (التي نشهدها في المغرب) والرياح العاتية، ينبغي علينا النظر بجدية في إنشاء مرافق تخزين تحت الأرض.

والجدير بالذكر أنه حتى مع اعتماد مصر القديمة على بناء وصيانة المخازن محليًا، كان توزيع السلع اللازمة لبقاء السكان على قيد الحياة مركزيًا لتحقيق التوازن الإقليمي وتقليل الهدر. هذا النموذج الذكي للتقسيم الوظيفي الفعال للمسؤوليات بين المستويين المحلي والوطني يتوافق إلى حد كبير مع نظام اللامركزية الذي يعمل المغرب على تطبيقه حالياً.

في عهد النبي يوسف، لم تكن مصر تفتح مخازنها فوراً لمجرد طلب الناس أو احتجاجهم عندما شعروا بآثار المجاعة. بل تحمل السكان مراحلها الأولى بصبر، ولم تُفتح المخازن إلا عندما اشتدت المجاعة. هذه الاستراتيجية الذكية هي ما مكّن مصر من تجاوز أزمة السبع سنوات بنجاح، فقد أدركت أن مواجهة تهديد المجاعة يتطلب الحفاظ على الموارد لأوقات الأزمات الحادة.

وهنا تكمن الحكمة: يجب أن تحدد مخازن الطوارئ الكبرى معايير دقيقة لموعد فتحها. فالتسرع في فتحها قد يستنزف الموارد قبل الأوان، ويُعرض المجتمع لخطر النقص خلال الأزمات الممتدة.

تكتسي مواقع تخزين المؤن أهمية بالغة في إدارة الأزمات، كما أظهرته التجربة المغربية خلال الزلزال الأخير، حيث تأخر وصول المساعدات إلى المناطق البعيدة عن العواصم الإقليمية مقارنة بتلك القريبة منها – وهي مشكلة عالمية متكررة في مجال الإغاثة الإنسانية. وغالباً ما تقع هذه المناطق النائية على حدود بلديات أخرى تعاني بدورها من البعد عن مراكزها الإقليمية. لذلك ينبغي إنشاء مراكز التخزين في مواقع استراتيجية تتيح وصولاً سهلاً لهذه المناطق النائية، مما يسهم في تحقيق الاستقرار المجتمعي عبر تقليل موجات النزوح أثناء الأزمات، ويخفف الضغط عن العواصم المحلية والإقليمية والوطنية على حد سواء.

وأخيراً، لا تكتفي النصوص التوراتية وشروحات المدراش بوصف شخصية النبي يوسف فحسب، بل تقدم أيضاً نموذجاً للإدارة الفعّالة التي تحتاجها المجتمعات لمواجهة الكوارث الكبرى. لقد أظهر النبي يوسف أن الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة صفة لا غنى عنها للقادة الوطنيين، ولم يتردد في أن يتحول إلى تاجر للقمح والمواد الغذائية الأساسية عندما اقتضت المصلحة العامة. فور تكليفه بمهمة إنقاذ مصر من كارثة محققة، سافر من مدينة إلى أخرى، ومن مكان إلى آخر، مُغطيًا أرض مصر بأكملها، مُحفزًا ومساعدًا أهلها في جهودهم للمشاركة في إنقاذ حضارتهم. لقد نجح في تحويل الهدف المشترك إلى واقع ملموس، فجنّب المجتمع ذعرا واسع النطاق، وحفظ للحضارة بقاءها.

يحتاج قادتنا اليوم إلى رؤية إنسانية شاملة وفهم عميق للأوضاع المحلية، بالإضافة إلى ضرورة تواصلهم المباشر مع الناس من خلال السفر والتواجد في المواقع التي يخدمونها. لا ينبغي الاعتماد على إدارة مرافق التخزين كوظيفة بيروقراطية فحسب، بل على قيادة ملتزمة تركّز على الحلول العملية السريعة لمواجهة التحديات الطارئة.

تكشف النصوص الدينية وشروحات المدراش كيف امتد أثر التخطيط المصري ليشمل الدول المجاورة. فلم يقتصر الإنقاذ على مصر وحدها، بل شمل شعوباً ومناطق بأكملها استفادت من مخزون مصر الاستراتيجي. لقد سمح نائب الملك وفرعون بدخول الأجانب لشراء المؤن اللازمة للبقاء على قيد الحياة، الأمر الذي لم يحقق استمرارية مجتمعاتهم فحسب، بل جلب أيضًا إيرادات أساسية لمصر مكّنتها من الازدهار في السنوات التي تلت نهاية المجاعة.

يصف المدراش نائب الملك بأنه نموذج للرأفة والكرم، متحلياً باللطف في حديثه، وبالبصيرة الثاقبة في تقييم عواقب القرارات على المدى البعيد. لقد جمع في إدارة توزيع الغذاء بين الرحمة والدقة، حيث وازن بين الإنفاق الضروري لضمان البقاء، والحساب الدقيق للحفاظ على الموارد من النضوب.

وما يزيد من إعجابنا بهذه الشخصية التاريخية هو حرصها على التواصل المباشر مع جميع فئات الشعب في مختلف مناطق البلاد، حيث سافر لمسافات طويلة وبصورة مستمرة وقدّم الدعم وفقاً لاحتياجات الأسر وأطفالها. إن قدرة قائد على إنقاذ دول مجاورة بالإضافة إلى شعبه، تظل نموذجاً خالداً نستلهم منه اليوم، بعد أربعة آلاف سنة، ونحن نواجه تهديدات مماثلة.

ولعل في هذه القصة عِبَرٌ قيمة لمملكتنا المغربية الحبيبة، تستخلص منها دروس الماضي وتجارب البشرية، لبناء مخازن تضمن الأمن الغذائي لشعبها إذا دعت الحاجة. فالمغرب بتنوعه البشري وبيئته الفريدة التي تجمع مختلف المناطق الحيوية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وبفضل التزامه التاريخي بوحدة بلدان الجنوب، قادر على أن يكون مخزن الغذاء الذي لا ينقذ نفسه فحسب، بل يعين أيضًا الدول المجاورة، إذا نجح في تخزين موارده استعدادًا لما قد يحمله المستقبل من أزمات.
يوسف بن مير هو رئيس مؤسسة الأطلس الكبير، ومقيم في المغرب.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني