إني أدرك يقينا أنه من الصعب جدا تناول جميع التفاصيل و التحولات المتعلقة بشعر الهايكو من حيث المنشأ و التاريخ و الخصائص و غيرها …لكنني سأحاول أن أشير إلى بعض ملامحه و سماته التي تميزه عن غيره ، و التي قرأتها لبعض الدارسين و الباحثين في هذا اللون الشعري و كذا بعض الشعراء :
– يقول حيدر لعبد الله عن شعر الهايكو بأنه” نص شعري متصوف يربط الإنسان بالطبيعة و يقال في نفس واحد “.
– إنه قصيدة يابانية كانت جزءا من قصيدة تسمى ” الرينكا ” و هي فن ارتجالي تناوبي شفهي ترفيهي يندرج ضمن فن المحاورة .
– شعر الهابكو يتكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا باليابانية مقسمة على ثلاثة سطور 5/7/5.
– هو شعر الكاميرا ، تصوير دون تدخل أو تعليق ..
– فن يعتمد التقاط المشهد الجميل دون وضع الرأي فيه ، يقبل العالم و الكون كما هو دون محاولة تغييره .
عموما هو شعر الومضة و الاختزال ، شعر متحلل من زخارف البديع .
لقد تعزز هذا النوع من الشعر في جغرافية الأدب العربي و نشر حقوله عن طريق التبادل الثقافي أو الرحلات أو الدراسات ، و يبقى لهذا اللون طبعا محبوه و أنصاره و مريدوه ، من هؤلاء نذكر الفلسطيني عز الدين المناصرة و المغربي سامح درويش و غيرهما كثير ….
و قد أكد الشاعر المغربي سامح درويش في إحدى حواراته عن وجود هذا اللون الجديد الشعري قائلا : ” الأمر يبدو لي مؤشر سلامة شعرية و فنية في أفق تمجيد الذات بشكل كابح للإبداع و ارتياد آفاق جديد ة للتعامل مع مأزق الشعرية العربية ” .
و حتى ألج عالم الهايكست لبنى منان و أخرج من هذه المقدمة البسيطة ، يمكنني القول على أنها بهذا الديوان فتحت لي الباب لأبحر في يَمً شاعريتها و أطل على حروفها التي صاغتها بمرجعيات متعددة في ديوانها الموسوم ب ” و ثالثهما الريح ” ، ديوان من الحجم المتوسط عدد صفحاته 76 صفحة ، ضم بين جناحيه ثماني قصائد استهلتها بقصيدة ” وحيد مرتين ” ، مرورا ب ” خابية الطين ” و” قريبا أعلن خريفي” ثم” نسيت أن أنجلي” / ثالثهما الريح / تراه يزهر الآن / آخر آيات الربيع ، و انتهاء بقصيدة ” هايكو برايل ” ، قصائد موحدة في الشكل كل مقطع شعري يتكون من ثلاثة أسطر ، أما من حيث مضمونها فيغلب إن لم أقل يهيمن عليها معجم طبيعي ، و هذا ما يميز شعر الهايكو، شعر التأمل في الطبيعة و عدم التركيز على الذات و إن عدنا إلى أقدم شعراء هذا النوع لوجدنا الشاعر الياباني باشو يقول في قصيدة البركة القديمة. :
بركة قديمة
ضفدع ينط
صوت الماء
ثلاثة أسطر منحتنا مشهدا من الطبيعة ، و هو مشهد قد رآه العديد منا دون مبالاة ، لكن الشاعر صوره و كأننا أمام المونتاج السينمائي ..قد تليه مشاهد أخرى .
إن لبنى منان آمنت بالتجريب و الانفتاح على الثقافة الكونية و هذا راجع لتمكنها من اللغات الأجنبية ( الفرنسية و الانجليزبة ) مما جعلها تنفرد بلغة شعرية مميزة ، افترشت خلالها لغة الأرض و ترابها و طينها و تدثرت نور السماء ، مصغية شدو الحمام ،ممتطية صهوة الريح ، كل ذلك في قالب شعري مختزل و مكثف ، تقول :
حوض جيرانيوم
قليلا منك يا مطر
لأحيا
مطر خفيف ،
قبل الثرى يضوع
سقف الطين ص: 17
الشاعرة تسير بنا عبر تدفق شعري متعدد التأويل ، و هي تجدد في أدوات التعبير ، و تتسربل بنا في جو الإمتاع تقول :
عربة غزل البنات
بأيدي الصبية
غيوم بالألوان
رف البهارات
حديقة أمي
المعلقة ص: 27
كل مقطع عند الهايكست لبنى منان هو ومضة ، تخلف لدى القارئ نوعا من الدهشة ، فالحدائق المعلقة ببابل هي رف البهارات ، تعقد الشاعرة علاقات بين الأشياء و تصوغ وجوه شبه كثيرة بين ما تراه ،
تقول:
المناجل
نصيب المتعبين
من أهلة السماء ص : 28
تربط بين المناجل و الأهلة على مستوى الشكل ، و في نفس الآن تؤكد أن الحصدة يعملون ليلا و نهارا لكنهم لن يحصدوا سوى التعب .
تقول الشاعرة في وصف السماء :
ديسمبر
السماء التي تظلنا
بحر من زبد ص: 29
طبعا ، هي حقيقة السماء في ديسمبر ، هكذا يراها المتأمل ،
هيمن معجم الطبيعة في جميع القصائد مما يجعلنا نتأكد من التزام الشاعرة بقواعد الهايكو الذي يبتعد عن الذات ، ليجعل الإنسان ملتصقا بالطبيعة ، يقول الشاعر المغربي سامح درويش ” يسألونك عن الهايكو قل إنه احتكاك تلقائي للإنسان بالطبيعة . …..إنه تدفق ضوء في جوف الظلمة من ثقب الرؤية ……”
إن الحقل الدلالي للطبيعة و مفرداتها و هيمنته على نصوص الهايكست جعلنا نصول و نجول في عالم من الجمال ، و الاخضرار و البهاء ، فلنتأمل هذه العبارات التالية : أزهار اللوتس / عطر الأوركيدة / الياسمين / أشجار الميموزا / ظلال الجلنار / نانرنج / صفصافة / شجرة القيقب / أحراش الخيزران / الآس / أغصان الكينا / لبلابة / جنان التفاح / زهرة الخوخ / زنابق / بستان اللوز / جنان الزيتون / غابة السنديان / الأقحوان / …….و أنا أسمع هذه الألفاظ أجدني أشم عطرها و أريجها و أستظل فيء أشجارها ….
تقول الشاعرة :
جنان التفاح
غصن طائش يقد
وشاحي من دبر ص: 42 .
تقول في قصيدتها الأخيرة هايكو برايل :
حصة إملاء
و كأنه المطر
في فصل المكفوفين ص: 74
لا تفارق لبنى منان الطبيعة حتى وهي تصف لنا حصة الإملاء في فصل المكفوفين .
أعتقد أن المجال لا يسعني لبحث العلاقات و القرائن في شعرية مبدعتنا ، غير أنه يمكنني القول أن قصيدة الهايكو ستظل مدهشة / مبهرة / تحقق شغف القراءة ، و ديوان ” و ثالثهما الريح ” سيبقى امتدادا للإنسان في الطبيعة ، و اختزالا للصور الشعرية الأخاذة ، و سفرا نحو نقاء الروح ، و تجديدا فرضه العصر ، و افتتانا لغويا جذابا ، و قلبا نابضا حماسة ، و مشاهد آسرة ، و تصريحا بالجمال في الكون بعيدا عن الذاتية .
ذة : مينة الحدادي رابطة كاتبات المغرب ، فرع اشتوكة أيت باها .