عبد الله بوكابوس
كلنا يقدر ذلكم الوجه الحضاري المسجل ببعض البلدان الراقية بحق، المتمثل في شمولية الأمن والطمأنينة والثقة التلقائية في المؤسسات لديهم وفي الأشخاص كبيرهم وصغيرهم وينبهر به، ويتأسف – أحيانا إلى حد الألم والحسرة – لعدم قدرتنا، ونحن الأمة ذات القيم المثلى، على تحقيق ذلك وعلى بلـوغ ما نحن أولى به (…) باعتبـار أننا أمة القرآن وما يتفرع عنه ويتصل به..
بلدان بلغت مستوى من التخليق في الحياة العامة لديها ما يجعل “المسلمين” يخجلـون من هويتهم المتناقضة ومن النفاق المستشري بين أضلعهم إلى حد بات يتداخل فيه التدين والثقافة ومجموع التقاليد “المتوارثة” بشكل “متناسق” ومتضارب في آن. ففي وقت تتوزع ببلدان ككندا مثلا أو الدنمارك أو السويد أو كوريا الجنوبية وغيرها.. المكتبـات ومدارس التخصصات المتنوعة ودور المعرفة ومعاهد الموسيقى ومعارض المقتنيات والحاجيـات المختلفة وأماكن الترفيه وفضاءات الرياضات بنوع من التوازي ووحدة الاهتمام، وفي وقت تجتمع لديهم الثقة إلى حد كبير في القوانين المسطرة والسارية فيهم بشكل عام لا يخضع للاستثناء ولا للانتقائية، وفي وقت تراهم ملتزمين بما تقتضيه قوانينهم، خاضعين لمساطرها، وقبلها منضبطين لأخلاق يجتمعون عليها استنادا لما تلقوه بالبيت، والمدرسة، والإعلام، والمؤسسات، وسلطة القانـون..، نشهد بيننـا كل صنوف الموبقـات المنافية للدين والطاعنة في الأعراف والمتمردة على القانون والمنطق.
لا شك أن خطبة الجمعة تعد من أهم المظاهر الدينية التي يجتمع فيها المسلمون للاستماع إلى دروس الوعظ والتذكير بأمور دينهم ودنياهم، فهي تحيط الناس علما بأهمية الأعمال الصالحة وترك المعاصي وتساهم في تغيير سلوك المجتمع نحو الأحسن والأفضل والأرقى وتعزز روابط الإخاء بين أفراده.
ولاشك أيضا أن خطبة الجمعة تساهم في التوجيه لإيجاد الحلول للقضايا والمشاكل التي يواجهها المجتمع، كما تحث على التعاون والتسامح والتضامن بين الناس، ومنبر الجمعة فرصة للخطيب ليعبر من خلاله عن قضايا المجتمع ويوجه الناس نحو الحلول الإيجابية المنسجمة مع الحق والعدل وحسن الخُلُق.
ولئن كان كثير من خطباء الجمعة أناسا أفاضل يستحقون الاحترام حقا ويستحقون التوقير لصدقهم وحسن سيرتهم وجهدهم في تبليغ دعوة الحق، فهذا لا يمنع من الأسف على البعض ممن يجدر أن يعاد النظر في مستواهم وأدائهم.
لكن الواقع يصدمنا بمظاهر الفساد العام والشمولي، الطاغي بالمجتمع بشكل غريب ومثير، مناف تماما لما يفترض أن تحث عليه الخطب المنبرية كل جمعة على مدار العام..
فإذا كانت أسباب شيوع الفساد والنهب والعدوان وغياب مظاهر الاحترام بالمجتمع إلى حد ما متعددة وخلفياتها مختلفة كما هو معلوم، فإن خطبة الجمعة بأسلـوبها ونمطيتها وأداء كثير من مؤطريها تعد أيضا أحد العوامل السلبية غير المؤثرة بالشكل الواجب والمرغوب لنهضة المجتمع ورقي أفراده، فما الذي يمنع إذن من الجهر بمثل هذه الحقيقة ؟ ما الذي يمنع من أن نُقْبل على التصحيح ؟ ما العيب في أن ننخرط جميعا في نقد ذاتي شجاع..؟
السواد الأعظم فينا يرتاد المساجد أيام الجمعة للإنصات للخطبة والصلاة، لكن دعونا نتساءل – بصراحة – كم منا يرى في الخطبة التي يحضرها كتاباً يقرأه..؟ هلا تعاملنا مع الموضوع بوضوح أكبر وصراحة أوضح ؟
أليست معظم خطب الجمعة تتوزع بين رداءة في الموضوع، وركاكة في الأسلوب، ونمطية مملة في الأداء ؟
لماذا لم يستطع الوعظ المسجدي، بما فيه خطبة الجمعة، أن يعالج العلل والأمراض والبدع اليومية التي تملأ المساجد ؟ لماذا لم يتحسن تعاملنا الأدبي مع الله ونحن نلج بيوت الله..؟ لماذا يسمح بعض الآباء – وهم غير قليلين بالمناسبة – لصبيتهم المرافقين لهم، (منهم من في الخامسة من العمر ومنهم من دون ذلك)، باللهو والعبث وإزعاج المصلين والتشويش عليهم وتصفح المصاحف – وهذا طبعا مما لا يليق ولا يجوز.. -، لماذا يغيب التنبيه إلى هذا والتأكيد عليه في خطب الجمعة، إلا لٍماماً ؟ هذا على سبيل المثال لا الحصر.
لكن السؤال الأكبر، هل استطاعت خطبة الجمعة المعدة من قبل الخطباء (فرديا) أن تصنع مجتمعا منضبطا راقيـا يليق بالمستوى العالي المشرف الذي بلغته عقيدة الإسلام مذ نزلت رسالة “إقرأ”..؟
أعتقد أنه مهما كان الجواب، لا يليق بخطيب الجمعة أن يحتج بالمعارضة من أجل المعارضة، لا يليق أن يحتج على فكرة توحيد الخطبة المنبرية إذا كانت مبنية على برنامج جامع مدروس.. كما ورد، لأن الموضوع بالإضافة لكونه يتصل في ذات الآن بالدين والتربية والأخلاق والمجتمع، فهو مرتبط بوحدة أمة وبمشروع أدبي أزعم أنه رفع ٌ لتحدٍ و”منافسة” لأمم جادة في القول والعمل.