” ليس سهلا أن تكون شاعرا و البذاءة تحيط بك من كل جهة ، كما ليس صعبا أن تقرض الشعر و لغتك مشبعة بالخواء …” هذا ما ختم به الشاعر منصور الفلاحي مقدمة ديوانه ص : 6 ، فجاءنا الشاعر منصور محملا بالمعاني و قد تأبط ليس شرا و إنما حروفا و كلمات و جملا ألف من خلالها خمسا و ثلاثين قصيدة مختلفة معنى و متعددة مبنى ،فهو الشاعر القادم من مدينة الزهور سوق أربعاء الغرب ، و الفنان التشكيلي و الكاريكاتوريست ، و لعله طرق باب الرواية و أظنها فتحت له الباب على مصراعيه فهو يملك من الأدوات الفنية ما يجعله يدلي بدلوه في كل الفنون .
إن ديوان ” لن تمنعوا عني الكلام ” و إن تعددت نصوصه فهو وحدة لا تتجزأ و لا يمكن فصل بعضه عن بعض ، فالنصوص تتكامل في موسيقاها ، و دلالاتها و أسئلتها و جمالية صورها الشعرية ، كما تتآخى مع الغلاف و هو عبارة عن لوحة تشكيلة بعنوان ” صيحة في واد ” و هي من إنجازه ، العنوان أيضا يثبت تناغم جميع هذه العتبات النصية في : رفض الصمت / الرغبة في الكلام / .
إن الشاعر منصور يبتكر اللون في التشكيل و القوافي في الشعر لكن ما أثار اهتمامي كقارئة هو هيمنة السؤال ،حيث لاتكاد تخلو قصيدة منه ، فالسؤال حاضر و مهيمن ، سؤال الرفض ، سؤال الذات ،سؤال الاحتجاج ،سؤال المعارضة ،سؤال التصدي ،سؤال المواجهة ،سؤال المقاومة …. لعل الشاعر و هو يطرح أسئلته كان يبحث عن النقاء و الصفاء الوجودي ،فجاءت قصائده جميعها على شريط جغرافي ممتد من الأسئلة صاغها جملا استفهامية مباشرة غطت حوالى تسعين صفحة من الديوان و هي أسئلة تبحث عن الحقيقة الضائعة و المفقودة ، كأن كل قصيدة تقف أمام العالم شاهدة على بشاعة الواقع بأسئلتها الكاشفة ،الحارقة ، الملتهبة ، الباحثة عن المعلوم كما قال الشاعر طاغور : ” إن المعلوم في هذا الكون ، يلعب مع المجهول لعبة التخفي ” ١ .
و في محاولة منا لرصد السؤال في الديوان وجدنا ما يلي:
– حرف الهمزة : تكرر 24 مرة
– أين : تكررت 17 مرة
– كيف : 8 مرات
– هل : 7 مرات
– من : 8 مرات
– أي : 4 مرات
– كم : 4 مرات
– ما : 3 مرات
مما أعطانا في النهاية مجموع 75 جملة استفهامية منها ماهو مسبوق بحرف (الهمزة و هل ) و منها ما جاء مسبوقا بأسماء (كيف ، أين ،من ، ما ،أي ،كم ) و التي تم توظيفها بشكل مباشر، ناهيك عن تكرار الاشتقاق اللفظي لكلمة السؤال ( سؤالي ، سؤال ،تسأل ،سألت ،تساءلت …) إضافة إلى جمل كثيرة لم تكن استفهامية و لكنها ختمت بعلامة الاستفهام ، إضافة إلى عناوين نصوص مثل : أتصارعين القدر ؟/ أتذكر يابحر ؟ / أترضين ولادة ؟ /……..
مما لاشك فيه أن الشعر يثير الأسئلة أكثر مما يجيب عنها فمن خلاله يحرك الشاعر فكره ،ضميره،وجدانه ،و أسراره ، ” في الشعر يتفاقم وجود السؤال ليكون أضخم حتى من هويته التي تطلب المعرفة ،يتفاقم تغدو الإجابة ليست مهمة في ذاتها ” ٢.
إن منصور عانق السؤال الشعري و باح له كما باح مطران للبحر باضطراب خواطره فكان البحر يجيبه برياحه الهوجاء ، غير أن شاعرنا يترك الأسئلة مشروعة و مشرعة فالإجابة لم تعد مهمة في ذاتها بقدر ماكان منصور يستنكر الأوضاع الإنسانية و القومية و الوجدانية و الاجتماعية … .
يقول في ثالث قصيدة بالديوان :
أأخطرك القدر
أم لم يشعرك
بقدوم المطر ؟
أسجنك حلمك
أم زرع الضجر ص، 14
يتابع مخاطبا البحر في قصيدة أتذكر يابحر ؟
أين أنت الآن ؟
أين صفاء رمل شطآنك ؟
أين نقاؤك ؟
أين حنو خفقان موجك ؟ ص،18
يسائل البحر عن صفاء موجه ،عن زرقته ،عن وفائه ،عن شطآنه و قد تبدل من حال إلى حال .
النصوص الشعرية عند منصور منفتحة على جميع المشاهد اليومية ،و التاريخية .. السؤال عنده متدفق معناه على امتدادات مرئية و غير مرئية ،منسابة دلالاتها على البقاء و الخلود ” فللشعر علاماته السرمدية و هي تلك السيمياء المضللة ،و الخيمياء الموحية و الرهبة المعجزة ، لدى كل من يكتبه و يقرأه و يدرسه و يطلع عليه ” ٣.
و إذا انتقلنا إلى قصيدة ” عبثا تسأل الآن ” ص،19
يقول :
ياسائلي عن طيف الليالي
تمهل
تحمل
فلم تعد أنت كما كنت
هاهنا يخاطب الشاعر محاوره / سائله فتتغير الأدوار من شاعر سائل إلى شاعر يُسأل ،
فتمتلئ الأسطر بالأبعاد الفكرية الوجودية و يزداد صهيل السؤال مع توالي النصوص فهو يتساءل في قصيدة ” سداسية عاشق فقد الكلام ” ص ،24
أين أنتِ مني ؟
أين أنا منك ؟
لا تجيبي
بربك لاتجيبي
فلم يعد للكلام معنى
الشاعر يصاب بالشبع حتى التخمة من كلامها / كلامهم الذي لم يعد له معنى بالنسبة له ، و حتى و إن سأل و تساءل فذاك من باب الحضور الذاتي أو ربما منصور يباغت سائليه و في نفس الآن يعفيهم من الجواب .
يقول في قصيدة ” رفقا في الهوى ” ص،49
رفقا في الهوى خليلي
فدربك عريض أطول
إن غابت خطاك عن ناظري
ما عساي أفعل ؟
الشاعر منصور يمتلك الأدوات الفنية الكبيرة ،و يحسن توظيفها
تارة يعيرها للوجدان و تارة يعيرها للقضايا القومية :
أية فرحة حلت بكم هذا العيد ؟
أكل عام و رقاب أضاحيكم في مزيد ؟ص ، 70
و مرة يعيرها للقضايا الاجتماعية :
ويل لغدي من أناس قلوبهم أحجار
رجل يعانق الأرض ،و دمه ينزف ولا أخبار
أمة أحياؤها كأمواتها ،فلمن مثواكم يا صغار ؟
ص ، 68
لقد استطاع منصور أن يجعل من نصوصه الشعرية فسيفساء للسؤال باحثا عن الصفاء الروحي و هو يوثق عقدا بين الشعر و التشكيل تاركا للوحته على الغلاف ” صيحة في واد ” مفتاح الجواب على أسئلة القصيدة المتمردة و الرافضة ،” إن القصيدة الحقيقية هي رفض ،تمرد ،و حركة حياة ،في داخل هذه العناصر و بواسطتها تعيش القصيدة و تتنفس و نصيبها من الحياة المشروعة في وجدان الإنسان ” ٤.
هكذا يبدو السؤال في ديوان ” لن تمنعوا عني الكلام ” مهيمنا بلغته و علامته و إشارته و دلالته ،السؤال الشعري المتعدد،و الذي من خلاله استطاع الشاعر أن يوصل الرسائل إلى أصحابها ، سؤال أخذ أشكالا متعددة لم تزد الشاعر إلا شاعرية و عمقا و ثباتا و رسوخا في تجربة منفردة ثرية وواعية .
إحالات :
١: طاغور شاعر هندي و روائي و رسام و مسرحي و مفكر ،أول كاتب غير أوروبي نال جائزة نوبل للآداب سنة 1913.
٢: منصة ركائز الأدب و الفلسفة ،دروس بالشعر ،السؤال بالشعر ،عصام مطير ،6 غشت 2018.
٣: الشعر جواب على سؤال الحياة ،هاشم شفيق ،القدس العربي 24 يناير 2017.
٤: مجلة دعوة الحق عدد 222.
مينة الحدادي ، اشتوكة أيت باها