الشعبوية في قلب السياسة المغربية

 

بقلم : ذ.ياسين سليم
تُعد الشعبوية ظاهرة سياسية تتنامى في الخطاب العام، وخصوصًا في الخطاب السياسي الذي يسعى فيه بعض الفاعلين إلى كسب التأييد الشعبي عبر تبني أساليب خطابية قائمة على التبسيط، والتحريض العاطفي، والانقسام الثنائي بين “الشعب” و”النخبة”. لا تُعتبر الشعبوية أيديولوجيا قائمة بذاتها، بل هي أسلوب في التعبير السياسي يتسلل إلى مختلف التيارات السياسية سواء كانت يمينية أو يسارية، ويهدف أساسًا إلى خلق تصور مبسط للواقع، حيث يُقدّم الشعب كمصدر للفضيلة، في حين تُصوَّر النخبة أو المؤسسات الحاكمة كمصدر للفساد والانحراف.

يلجأ الخطاب السياسي الشعبوي إلى خلق سرديات تعتمد على العاطفة أكثر من العقل، وتتجنب التفصيلات التقنية أو التحليلات المعقدة التي قد تشتّت المتلقي أو تكشف محدودية الحلول المقترحة. هذا الخطاب يزرع ثقة مفرطة في شخصية القائد، الذي يُقدَّم على أنه المنقذ الوحيد القادر على تمثيل الإرادة الحقيقية للشعب. ويعمد هذا النوع من الخطاب إلى تقويض المؤسسات التقليدية مثل الأحزاب والبرلمان، عبر تصويرها كعقبات أمام إرادة الجماهير، وهو ما يُفضي غالبًا إلى نوع من التوتر بين الشعب والدولة.

في السياقات السياسية المضطربة، تجد الشعبوية تربة خصبة للنمو، خصوصًا حين تسود أجواء الإحباط واليأس من النخب السياسية القائمة، إذ تصبح الوعود الكبيرة والحلول السريعة أكثر جاذبية من المقاربات الواقعية والمعقدة. ومع أن الخطاب الشعبوي قد يحمل بعض الإيجابيات كقدرته على تعبئة الجماهير وإثارة النقاش حول قضايا مهمشة، إلا أن مخاطره متعددة، أبرزها نشر الانقسام داخل المجتمع، وإضعاف ثقة المواطنين في المؤسسات، فضلاً عن نشر خطاب الإقصاء والعداء تجاه المختلفين.

ويُمكن في هذا السياق الإشارة إلى التجربة المغربية كنموذج لدراسة ميدانية لخطاب الشعبوية داخل الواقع السياسي العربي. فعلى الرغم من أن النظام السياسي المغربي قائم على ملكية دستورية ذات مؤسسات منتخبة، إلا أن الخطاب الشعبوي عرف تصاعدًا ملحوظًا، خاصة مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى المشهد السياسي بعد حراك 20 فبراير سنة 2011. فقد اعتمد هذا الحزب في حملاته على خطاب يناهض “التحكم” ويدعو إلى “الإصلاح من داخل المؤسسات”، مما جذب فئات واسعة من المجتمع. وقد تميز الأمين العام للحزب، عبد الإله بنكيران، بخطابه المباشر والبسيط الذي يميل إلى مخاطبة المواطن بلغة قريبة من الشارع، حيث صرح في أحد خطاباته قائلاً: “نحن جئنا لمحاربة التماسيح والعفاريت”، في إشارة رمزية إلى القوى المجهولة أو النخبة التي تعرقل الإصلاح. هذا النوع من الخطاب أثار إعجاب بعض الناخبين، لكنه وُجه أيضًا بانتقادات اعتبرته شعبويًا يفتقر إلى العمق السياسي والبرامجي.

تجربة المغرب تُبرز كيف أن الخطاب الشعبوي يمكن أن يكون وسيلة فعّالة للتأثير السياسي في لحظة معينة، لكنه قد يفقد جاذبيته حين يُختبر في الواقع وتُكشف محدودية قدرته على التغيير. وهذا يبيّن أن قوة الخطاب لا تُقاس بشعبيته فقط، بل بقدرته على إحداث تحولات ملموسة ومستدامة.

إن الشعبوية في الخطاب السياسي تمثل انعكاسًا لاحتياجات حقيقية في بعض الأحيان، لكنها في كثير من الحالات تُستخدم كأداة سياسية تبتعد عن جوهر الديمقراطية القائمة على النقاش والتعدد والتوافق. ومن ثم، فإن مواجهتها لا تكون فقط عبر الرفض، بل من خلال تجديد الخطاب السياسي ذاته، وجعله أقرب إلى الناس من دون السقوط في فخ التبسيط أو الاستغلال العاطفي. بهذا، يمكن بناء وعي سياسي قادر على التمييز بين من يسعى إلى خدمة الشعب، ومن يختبئ وراء الشعبوية لتحقيق مصالح ضيقة.

 


تعليقات الزوار
  1. @Yassmine

    كلام في الصميم و في المستوى

شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني