قراءة في المشروع
محمد أكعبور
مرشد ديني بالصويرة
باحث في الخطاب والإعلام الديني
سبق لنا إصدار مقال في الباب شهر يوليو 2024 بعنوان: “الوسم البليغ في تقريب خطة تسديد التبليغ” فكان الذي أشرنا إليه كون ” مشروع خطة تسديد التبليغ، المشروع المولوي الرامي تحقيقَ عدالة التخاطب الديني للرعايا الأوفياء انطلاقا من مرجعية خطاب الثوابت الدينية والوطنية.
اليوم، مع مشروع خطة تسديد التبليغ دخلنا في الحقيقة مستوى راقيا جدا من التخاطب وتجديد بيداغوجيا التبليغ الهادف لترشيد الخطاب الديني وهو استثمار كل تلك المضمومات التي راكمتها تجربة المسألة الدينية_ من تشريعات وقوانين تؤمن المسألة الدينية وتبلَّغ مضامينها بواسطة العلماء ومن أذن له العلماء للتدخل الحضوري كما الرقماني في البيئة الرقمية بقصد ترشيد التدين ذي خصائص مغربية لا نزع فيها ولا منزع _بالمملكة بهدف تحقيق مجتمع ينعم بحياة طيبة تحقيقا لوعد الله للصادقين متى توافر شرطاه وهما:
الإيمان والعمل الصالح بعدما وفرت الدولة بيئة الاشتغال _بيئة التخاطب الديني _للتلقي من أجل الترقي.
وخطة تسديد التبليغ هذه، كانت نتاج عمل المجلس العلمي الأعلى الدؤوب بتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المتجذر في تقديم خدمات دينية للمغاربة لِيترجم الإرادة المولوية السامية في النهوض بالتنمية البشرية في بعدها العمراني بالمفهوم الخلدوني وكما حدده المفهوم القرآني قبل ذلك.
في هذا المقال أعلاه ، ذي المحورين أدناه، سنقرب المفهوم _خطة تسديد التبليغ _ بما له ارتباط وثيق به من حيث العلاقات الوظيفية والمحمولات الدلالية والشحنات السياقية الهادفة تحقيق المقصد العام من التأطير العلمي فالتأطير الديني انطلاقا من وثائق مرجعية وورقات بيداغوجية تهدف استيضاح مدلولات مفاهيم حصل فيها تشابك قد يؤدي إلى تنازع في غياب الاحتكام لوازع القرآن ووازع السلطان ، وسنعرض لذلكم انطلاقا مما صدر به البيان في تفصيل لمتوالية ثلاثية يتشكل منها مؤلف الدراسة النقدية المعنون بـــ : “الدين للحياة ” لتحقيق مناط الحياة الطيبة ، فأما المتوالية هذه فهي :
1_ الدين والتدين
2_مقتضيات الإيمان
3_مقتضيات العمل الصالح
وسيتركز الكلام على مفهومي الدين والتدين في المحور الثاني من هذا المقال فيما بداية مع المحور الأول لتقريب المشروع.
المحور الأول: الحياة الطيبة وتسديد التبليغ: تقريب المشروع
يعد مشروع خطة تسديد التبليغ كما فهمناه ” المنهاج _ الإطار العام للتخاطب الديني للجماعة المتعلمة وذلك بتصريف التعلمات العلمية المتلقاة من خلال التكوينات المستمرة للقينين الدينيين ومنها برنامج خطة ميثاق العلماء صونا للدين وترشيدا للتدين الجامع المتأسس على مرجعية خطاب الثوابت الدينية والوطنية من أجل حياة طيبة”.
ولأجله، ثلاث وثائق من إصدار ومنشورات المجلس العلمي الأعلى باعتباره “مشروعا تسعى من خلاله مؤسسة العلماء، برعاية مولانا أمير المؤمنين حفظه الله، إلى النهوض بأمانات العلماء في واجب تبليغ الدين من أجل تحقيق مقومات الحياة الطيبة في المعيش اليومي للناس بحيث يكون لإيمانهم وعباداتهم ثمرات تنعكس على نفوسهم بالتزكية وصلاح الباطن، وعلى سلوكهم بالاستقامة وصلاح الظاهر”[1]
فأما الوثيقة الأولى ؛فتحت عنوان “خطة تسديد التبليغ: دليل مرجعي في التأصيل والفهم والتنزيل.”
أما الوثيقة الثانية فعنوانها” أمانة التبليغ تأصيلا وتنزيلا”.
فيما الوثيقة الثالثة معونة بـــــ:” الدين للحياة”.
وذلك تحقيقا لوعد الله تعالى لعباده بهذه الحياة، المشروطة بالإيمان وبثمراته في العمل الصالح، في قوله تعالى: ” مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحًۭا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌۭ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةًۭ طَيِّبَةًۭ ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ “الآية 97 سورة النحل “.
باعتبار الإيمان؛ استحضار للالتزام مع الله تعالى على اتباع ما أمر به على قدر الاستطاعة والكفِّ عما نهى عنه؛ وهذا الالتزام هو الذي يثمر وازعا داخليا محرِّراً للنفوس من أهوائها وحظوظها، وباعتبار العمل تجليا خارجيا يجلب المصالح والمنافع للناس، ويدرأ المفاسد والمضار عنهم، بحيث يكون أصل الإيمان، من خلال شعبه التخليقية الحاملة على الفضائل والمكارم، مسددا ومقوما للأعمال؛ وتكون هذه الأخيرة منبعثة من هذا الوازع ومستحضرة له طلبا للرشد والاستقامة.
ومن أهداف خطة تسديد التبليغ:
1_ تقليص الهوة الفاصلة بين فضائل الدين، وبين أعمال كثير من الناس البعيدة عن تلك الفضائل.
2_ تفعيل منظومة قيم الدين وأخلاقه في مجالات الحياة المختلفة انسجاما مع روح الدين وفلسفته في شمولها واستيعابها، وفي تأطيرها وتسديدها لأحوال الناس الخاصة والعامة.
وتتقاطع خطة تسديد التبليغ في عملها، مع كل الجهود المخلصة الهادفة إلى تحسين أحوال الناس وإصلاحها، ومع كل النظم والقوانين والمبادئ الساعية إلى تحقيق سعادتهم والعدالة فيما بينهم، وحفظ أمنهم وسلمهم، وحفزهم على الإبداع والبذل والعطاء، بما يقوي أواصر التضامن والتكافل فيما بينهم. ويتم تنزيل هذه الخطة من خلال وسائل التبليغ والتكوين المختلفة:
أ_خطبة الجمعة: الخطبة الموحدة.
ب_ دروس الوعظ والإرشاد؛ والوعظ ” وظيفة دينية تربوية وتعليمية الغرض منها تنمية الأفراد روحيا، واجتماعيا، وسياسيا، وثقافيا، واقتصاديا.”
برنامج ميثاق العلماء: وهو “خطة لتأهيل جميع أئمة المساجد، وفق برنامج محدد يشرف عليه المجلس العلمي الأعلى بتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بناء على التعليمات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس المضمنة في خطابه المؤرخ في 27 شتنبر 2008″.
المحاضرات والندوات الداعمة:
مقررات معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات:
مدارس التعليم العتيق:
دروس التوجيه والتوعية عبر وسائل الإعلام والتواصل السمعية والبصرية: حوارات في التبليغ وذكر على السادسة”.[2]
ومما تستتبعه تلك الأهداف في العصر ” تحدي العلماء والمأذون هم في التبليغ التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة؛ فـــــ” إن العلماء يجدون في تكنولوجيا التواصل الحديثة ما يجعلهم أقدر على حماية الهوية، وهي ذات الوسائل المتوفرة للذين ينشرون الباطل من الجاهلين والمبطلين والمتطرفين، والمنتظر من العلماء هو حسن استعمال هذه النعمة بما يناسب مقامهم، وعليهم أن يقنعوا الناس بهذا المقام على مستوى المصداقية، “[3]
ذلك أن مقاصد الدين الكبرى التي عدها العلماء من ضرورياته: حفظ الأنفس وصونها، وحفظ العقول وترقيتها، وحفظ الأموال وتنميتها، وحفظ الأعراض وضمان كرامتها وقد سهر العلماء على تبليغها وحفظها بما يلزم واليوم يستلزم حفظها أكثر وأكثر في ظل تعدد مخاطبي الأمة عبر قنوات اتصال حديثة تضمن إيصال الخطاب بسرعة خارقة لذلكم وجب على حماة الدين استثمار تكنولوجيا المعلومات.
هذا ووجب القول: إن من وظائف الدولة في علاقتها بالدين كما صغناه في تربيع ، ما يلي:
1_ تأمين الدين: من خلال استصدار تشريعات دينية.
2_ تصحيح الدين: وهي وظيفة تقوم بها مشيخة العلماء الممثلة في المجلس العلمي الأعلى.
3_تبليغ الدين: خطبة الجمعة والدروس الوعظية الموازية لها واللقاءات والندوات والتدخلات العلمية والدينية من مختلف مظانها .
4_ ترشيد التدين: وهو الهدف من تفعيل وتنويع سبل وأطر وحصص التأطير العلمي المفضي للتأطير الديني.
لذلك صدر الإذن في التبليغ بشرط، التبليغ من داخل منظومة خطاب الثوابت الدينية والوطنية.
“إن التبليغ على وجه الإجمال، هو قيام العلماء بالحرص على الناس حتى يقوموا بأركان الدين صورا وروحا، بحيث إن لها أثر النفع الذي يؤهلهم للحياة الطيبة.”[4]
أقفل هذا المحور بهذه الدرة الناصحة:” يجتهد هؤلاء المبلغون وهم يستحضرون قوله تعالى:” ليس عليك هداهم “ولكنهم يحرصون ويلحون ولا يملون من أن يبينوا للناس منافع ثمرات الإيمان في بناء حياتهم الطيبة.”[5]
المحور الثاني: وقفات مع كتاب الدين للحياة: ربط العبادات بثمراتها (الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج)
يسعى مؤلف” الدين للحياة” _للتعريف بإشكالات ظلت مدار النقاش والخلاف ليوجهها وفيها مفصلا وإليها مؤصلا تأسيسا على الفهم السليم للنصوص التي تعرض للمفهوم.
ومن تلك المفاهيم التي سيتركز عليها مقالنا؛ أحد محاور الكتاب الأولى وهو:
الدين والتدين؛ ففي هذا المحور الأول يرد أنه:” يخلط كثير من الناس بين الدين المنزل من عند الله تعالى، وهو الشرع الكامل، التام الكلمات المطلق، المستوعب للزمان والمكان والإنسان؛ وبين التدين وهو اجتهاد ومسؤولية الإنسان في سعيه وكسبه من الدين، كما أنه جهد نسبي محدود زمانا ومكانا وإنسانا؛ ولهذا كان فيه التفاوت في التحصيل بحسب الجهد المبذول في تمثل قيم وأخلاق الدين. ولقد قرر القرآن الكريم هذا”.[6]
وفي النقطة الثانية من هذا المحور يرد القول: ” وأما التدين، فكسب وتمثل الشعائر الدين، بحسب جهد الإنسان وطاقته وكدحه وسعيه؛ ولهذا قال الحق سبحانه وتعالى: ولا يُكلف الله نفساً إلا وسعها (البقرة/200)، وأن ليس للانسان إلا مَا سَعِى وَأَنَّ سعيه سَوْفَ يُرى (النجم / 30-40) يَأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَاردحُ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فملاقيه (الانشققاق (6). “[7]
وقد ورد في الكتاب كذلك”أن من ثمرات التمييز بين الدين والتدين؛ حمل الناس على الاجتهاد الدائم من أجل تحسين تدينهم، والارتقاء في سلم الطاعات والقربات درجات عندما يدركون أنهم دائما محتاجون لهداية وإرشاد الدين”.[8]
وللدكتور الباحث سعيد بيهي مشاركة متميزة بعنوان”التدين وتفاوت مراتبه” وفيع يشير إلى خاصية من خصائص التدين باعتباره جهدا بشريا يسعى للكمال بحسب الطاقة البشرية، لذلكم حدد مفهوما للتدين؛ وهو: “تكلف الدخول اختيارا في الدين تعرفا والتزاما، تشوفا للصلاح في العاجل والفلاح في الآجل”[9].
وبذلك، فالدين علم والتدين عمل بحسب الجهد والطاقة، اقتضاء بما ورد في قوله تعالى: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم ﴾. سورة التغابن الآية 16
إن التدين لا يكون إلا تدينا سليما وهو المتأسس على الدين الصحيح المتأسس بدوره على التبليغ النبوي مما يحتفظ الفكر الديني المغربي بمعالمه ويضمن عوالمه من خلال ما يذكره تاريخ هذا الفكر من مرويات في مصنفات وكتب ومجلات ومطويات ومنها كتب مواكبة لمشروع خطة تسديد التبليغ وتحديدا كتاب: الدين للحياة الذي نعرضه للقراءة النقدية.
لقد أقر المؤلَّف _موضوع الدراسة_حقيقة كون التدين السليم أساس الحياة الطيبة، وحتى يستقيم تدين المرء ليصبح تدينا سليما، تدخل الخطاب الديني في تجديد آليات التدخلات بهدف ترشيد التدين: وهو التوعية الدينية بالاقتصار على خطاب أهل السنة والجماعة في الإلقاء والتلقي والممارسة والأداء الفردي والجماعي للشعائر التعبدية والأخلاقية والسلوكية والسياسة الشرعية.
إن كتاب الدين للحياة غني بالمفاهيم والاصطلاحات الوظيفية ومنها مفهوم:” تأهيل التدين “المرتبط بالمهام النبوية الأربع في التبليغ وهي المضمومة في قوله تعالى﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾] الجمعة الآية2 [
اختم بهذه الغُرة “لا يخفى أن عالم الدين فاعل في التغيير إلى جانب غيره من الفاعلين، يُذكر الناس بمعنى الحياة وبالسلوك المناسب لشرع الله وحكمته في الخلق، وهو يتميز بأنه يُقنع الناس بجانبين: قوله من جهة، وفعله وحاله من جهة أخرى، وهو شرط غير مطلوب في أهل الصنائع الأخرى بما فيها التعليم، فالناس بحاجة إلى من يبلغهم أحكام الدين، ولكنهم يريدون أن يجدوا في هؤلاء المبلغين أشخاصا ربانيين يكون بهم الاقتداء والارتقاء.”[10]
هوامش المقال:
[1] www.habous.gov.ma
[2] المصدر ذاته بتصرف
[3] المصدر ذاته
[4] المصدر ذاته
[5] المصدر ذاته
[6] الدين للحياة
[7] المصدر ذاته
[8] المصدر ذاته
[9] د_ سعيد بيهي ملفات حلقات تأهيل الأئمة ضمن خطة ميثاق العلماء.
[10] موقع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سبق ذكره