محمد عزت علي الشريف
وحيث أنها شهادتي الشخصية.. ومُراعاةً للأمانةِ والمصداقية، قد تتضمن الشهادةُ بعضَ ما قد يُظنُّ تَرْويْجاً وتَغلِيباً للذاتي على الموضوعي، إلا أنه ظنٌّ مردود عليه : بأنّ مَظَنّةَ تَغليب الذاتي على الموضوعي أمرٌ طبيعيٌّ أن يحدث في حالات تكون فيها ذواتُنا هي الموضُوع.
نعم عندما نتحدث اليوم عن قضية الزميل الكاتب والشاعر الثائر “عبد الرحمن القرضاوي” فإن تهمة الرجل ولا ريب هي أنه “عبد الرحمن القرضاوي”، وحيثيات الاتهام هي نفسها صفات وكُنَى، بل وأفكار ونوايا المتهم ذاته!.
هذا هو الحال في بلادنا، عندما يكون الموضوع هو الذوات المستهدَفة.
قبيل ثورة 25يناير كانت كل الأحوال والمؤشرات تُرهِصُ بثورة حتمية لابد قائمة على النظام الحاكم في مصر آنذاك، وكان هناك الكثير من الحِراكات والفعاليات والتجمعات الوطنية التي تدعو وتُمهّد للتغيير وتدفع عليه، ومن أهم تلك الحركات والتجمعات كانت “حركة كفاية” و”الجمعية الوطنية للتغيير” وقد كانت الأخيرة تلك تمثل تجمعاً وطنياً فضفاضاً يتسع لكل فئات وشرائح المجتمع مهما اختلفت الميولُ والانتماءات أو المِلَلُ والديانات، وكان الجامِع المشتَرَك لكل هؤلاء إنما هو الهدف في التغيير، ولهذا استقطبَت الجمعية الكثيرين من الوطنيين الحقيقيين المستقلين.
وقد بادرتُ شخصياً من الوهلة الأُولى بالتسجيل في تلك الجمعية فور الإعلان عنها، وانتابني إحساس عميق بالتفاؤل وأنا أقرأ بعد أيام قلائل بمعظم الجرائد أسماءَ مَن أعلنوا انضمامهم إليها، وقد كانوا من خِيرَةِ الشخصيات السياسية والعلمية والفكرية في البلاد، وكان من بينهم اسم: عبد الرحمن يوسف.
وبعد أقل من عام قامت ثورة يناير 2011 التي لم أشك لحظة في حتمية نجاحها وقدرتها على التغيير الذي طالما دعَونا وسعينا إليه فرادى ومجتمعين. وكنت قد ألزمتُ نفسي وطوّعتُ قلمي تماماً لخدمة تلك الثورة المباركة، فعلاوة على غزارة ما أنتجته من مقالات ثورية وتوعوية في تلك الفترة، كنت متابعاً جيداً لكل اهتمامات وتوجُّهات الناس في المجتمع المصري، وراصداً لكل الكتابات ذات الصلة بموضوع الثورة والتغيير، وممّا لفت نظري آنذاك هو ذلك الاسم المتكرر أمامي وهو يسجل بمقالاته أعلى نسب القراءة والمشاهدة في مواقع تجميع وتبويب الأخبار والمقالات من مختلف مواقع الصحف العربية، إنه اسم: “عبد الرحمن يوسف”. وحقيقًةً لم أكن قد سمعت بهذا الاسم قبل ثورة 25ينايراللهم إلا في قائمة أسماء المُنضَمِّين إلى الجمعية الوطنية للتغيير، ومن هنا كان مغزى اهتمامي بالتركيز على متابعة نتاجات الرجل، وقد لمست بالفعل اهتمام الكثيرين بمتابعة كتاباته السياسية والفكرية المعبرة والمؤثرة، وبأُسلوبه ذي النكهة الشعرية الآسرة.
ومع أول نتائج بحثي عن شخصية هذا الشاب المفعم بالأحاسيس والوطنية الصادقة علاوة على الثقافة والفكر المتدفق؛ علمت أن وراء هذا الاسم حكاية؛ فهو عبد الرحمن بن العلامة الفقيه الشيخ يوسف القرضاوي، وأنه اختار لاسمه لقب “يوسف” ليفك الارتباط عن لقب أبيه الشيخ “القرضاوي”، ورغم أن اسم فضيلة أستاذنا القرضاوي شرف لكل مَن يمت إليه ولو حتى بصلة قراءة أحدَ كُتُبهِ الدينية والفكرية، إلا أنّ عبد الرحمن كما كان مُعتزّاً حتماً بأبيه، فقد كان معتزّاً أيضاً بذاته المستقلة عن أبيه وانتمائه، وخَطّهِ الفكريّ، وبَصْمَتِه وتاريخِه.
وعندها عرِفتُ أنّ عبد الرحمن القرضاوي – كاتب المقالات – إنما هو الشاعر: عبد الرحمن يوسف، والذي اتخذ خطوة شبيهة بما قُمتُ أنا بهِ تماماً منذ اليوم الأول للثورة بإرجاء الشِعر للخلف قليلاً لحساب المقالة السياسية والفكرية الثورية التوعوية.
ولا أظن أنه كان لعبد الرحمن مع مؤسسات الدولة العميقة خلافات عميقة، ففي الوقت الذي كان فيه الكثير من الكتاب المستقلين من أمثالي مقاطعين الكتابة في الصحف الخادمة لنظام مبارك، ووسائل إعلامه؛ كان عبد الرحمن يوسف لا يمانع في الكتابة لتلك الصحف، أو الظهور في البرامج التلفازية، ولم يكن عبد الرحمن يوماً اخوانياً كوالده المرحوم القرضاوي، بل كان يُصرّح دائماً في عهد حكم الاخوان: “نحن لسنا في دولة الاخوان، بل دولة ثورة يناير”.
وجديرٌ ذِكرُه هنا أنّ وطنية ومبدئيّة عبد الرحمن وإخلاصه لثورة 25يناير جعلته يُضحِّي بالمكاسب المادية حدّ أنه اعتذر عن جنسية إحدى الأقطار العربية الغنية، عندما ظنّها أنْ قد تُعيقه في مشواره نحو تحقيق حلمه لبلاده في الثورة والحرية.
ولأنني نشأتُ من المعجبين بشخصية الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وبخطه الفكري ومرونته السياسية وجرأته في الحق ولوعند سلطانٍ جائر، فقد كنتُ من السبّاقين لدعمه وتوثيق التوكيلات لترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية بعد الثورة، إلا أنني فوجئت أن عبد الرحمن يوسف كان سابقاً إلى هناك، ولِمَ لا؟ فعبد الرحمن الذي وقف صادحاً بقصيدته الجريئة “بُنِيَ الطغيان على خَمْس” كان طبيعياّ أن يدعم حملة الانتخابات الرئاسية لأبي الفتوح الذي واجه بدوره الطغيان الذي مثّله الرئيس السادات صاحب اتفاقية الخزي في كامب ديفيد وجهاً لوجه وهو رئيس اتحاد طلاب جامعات مصر أواخر سبعينيات القرن الماضي. وكان طبيعياً أن يؤيد عبد الرحمن كل ثورات الربيع العربي وآخرها ثورة سوريا في ديسمبر2024وغير مُستَغرَبٍ عليه وهو يبارك للثوار ثورتهم من داخل جامع الأمويين بدمشق أنْ تأخذه الحَمِيّة الثورية ويسجل رسالة مصورة يأتي فيها على ذِكرِ الصهاينة العرب بوصفهم وأسمائهم. ولا أتصور أنّ لعبد الرحمن من أخطاء تَرقَى لأن تُلْحِقَه اليوم بمرشحه الأثير دكتور أبو الفتوح خلف قضبان معتقلات صهاينة العرب اللهم إلا ما وقع فيه عبد الرحمن نفسه من لَبسٍ في إحصاء قواعد بناء الطغيان، عندما أدلى بشهادته في قصيدته البليغة قبل سنوات أنْ” بُنِىَ الطغيانُ على خمس” ولم يذكر في تلك الخمس “صهاينةَ العرب”؛ فاعتقلوه عسى أن يتراجع عن خطئه بعدما أثبتوا له حقًا – وأنا معهم بالفعل – أنْ “بُنِيَ الطُغيانُ على سِت”.!
محمد عزت علي الشريف
أديب وكاتب رأي
شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني