عبدالله أطويل

أحيانا يبتلع شهود الدنيا ألسنتهم ويحاكون القبور في صمتهم، أو يبادرون باللف والدوران حول الوقائع والحقائق مخافة لومة لائم. وفي أحايين أخرى ومن حيث لا نعلم قد يكسر الموتى من تحت الأرض القول المأثور “الكذب على الموتى”، ويبوحون بأسرار مفقودة أو يكشفون عن حقيقة مدفونة معهم، يأمنون بفلسفة كانط حين جعلت من الحقيقة غاية في ذاتها.
يحكي الكاتب الروائي محمد حياه صاحب رواية “اعترافات جثة” الذي اقتبسنا عنوانه، ففي روايته يروي بقالب روائي ودرامي شيق عن خمسة أشخاص استيقظو ليجدو انفسهم مخدرين على طاولة طعام وبالغرفة التي بجوارهم توجد جثة، اعترف صاحبها بأسمائهم كقتلة له قبل وفاته من خلال بث مباشر على موقع الفيسبوك، وما يربط بينهم هو الدافع لقتله الشيء الذي سجله عبر ملفات مشفرة بهاتفه وبألغاز رقمية بعدة أماكن من مسرح الجريمة.

سبب هذا الاستهلال ليس دراسة نقضية للرواية، بل حذيث من أحاديث في ما جرى من وقائع الواقع. قبل أيام وقف القضاء المغربي مرفوع الهامة أمام مفترق طرق محفوفة بالشك، بحثا عن الطريق المعبدة الموصلة للحقيقة، في قضية الراعي “محمدينو”، إذ جرى قبل أيام تنفيد قرار صادر عن قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بالرشيدية بموافقة النيابة العامة، وبطلب من أم الميت عبر ملتمس دفاعها. وهو قرار يقضي باستخراج الجثة من قبرها بمقبرة اغبالو وإعادة إخضاعها لتدابير الخبرة الطبية الشرعية في إطار السعي وراء بلوغ الحقيقة الغائبة حول ملابسات الوفاة. بحضور الدرك الملكي والوقاية المدنية وقائد المنطقة والإعلام والطبيب والفقيه وبموافقة أخيرة من الوالدين وبحضور دفاع المطالبين بالحق المدني وساكنة المنطقة، تم استخراج رفات الشاب، وسافرت الجثة نحو الدارالبيضاء للخضوع للخبرة الطبية الشرعية، في بحث مضن عن حقيقة يبدو انها أطالت مقامها تحت الحراسة النظرية. شهادات الأحياء كانت صامتة باردة راكمت مزيدا من الثلوج فوق الحقيقة المبحوحة. فتحول رجاء القضاء المغربي في بوح من عالم آخر، اعترافات الجثة. محاورة الموتى قد تكون خالصة من اللف والدوران حول خطوط تماس العدالة. “رفات محمدينو” في حوار علمي بمشرح قسم الطب الشرعي مع ثلاثة أطباء، في مهمة استنطاق الجثة وتنطيق الموتى أو على الاقل الاستماع اليهم عبر ميكانزمات علمية تدبج نتائجها في تقرير من المفروض أن يكتب بمداد لا يتبخر ويرسل لمحكمة الرشيدية ليكون قنديل تحقيق العدالة، ولو في عتمة الليل البهيمية.
بين هذا وذاك، وفي زحمة الأحداث حضر الإعلام والصحافة بسلطتهم الرقابية، وللأسف انكب على الحذث صنف آخر من الصحافة، هي صحافة صفراء أو بالتعبير الأدق هي سخافة تقتات من البوز وتنعش آمالها ولو على حساب آلام الناس. صنف من الرخويات أصحاب “البونجات” بشعارات صحافة شاهد قبل الحدف.
حتى وإن أجاب ذات يوم الكاتب المصري الساخر جلال عامر حين سُئِل عن الشفافية وقال إنها لا توجد إلا في ملابس النساء. فإن درب الحقيقة وميزان العدالة لا يستويان إلا بالشفافية، ومن أجل هذا انبعتث جثة الراعي “محمدينو” من مرقدها تحت التراب وتكبدت عناء السفر نحو الدارالبيضاء فقط لتبوح بشهادة غابت من أفواه شهود الدنيا، أو لربما كتبت على الماء فتبخر الماء وعلقت هي في عش الدبابير. من أجل تلك الحقيقة قد يكون اعتراف الجثة فسيح لسن خالي من التلعتمات. وإذاك بعده العودة لمتواها، حيث هناك متسع من الوقت لتحكي للأحياء تحت التراب وهم يتوسدون حقائقهم معهم عن أموات فوق الأرض من صنف شاهد مشافش حاجة، ولسان حال “محمدينو” يلعن أحياء مات فيهم الضمير.
في سبيل عدالة لا تقوم لدولة قائمة بدونها، ننتظر “اعترافات جثة”، لبلوغ تلك الحقيقة التي تحدث عنها الفلاسفة الامريكيون من منظور بركماتي، معتبرينها دات منفعة فقط ان كانت ورائها منفعة مادية. في حين اعتبروها الأخلاقيون غاية في ذاتها، اما آخرون فضربوا اخماسا في اسداس مرددين لازمة الشيطان يكمن في التفاصيل، وفي رواية أخرى قيل ابليس يرقد في التفاصيل، والعهدة على الراوي.


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني