*حوار مع الكاتب محمد آيت علو حول تجربته الإبداعية.

*ففي كثير من الأحيان كل ما نريده هو أن نُسمع فقط.

*الكاتب: محمد آيت علو و*المبدع: عبد الرحيم بيضون.
أخيرا وبَعد بُعد المسافات والمرض، وفي هذا الصباح المشتاة يُتاح اللقاء لنفتح بابا مع أيقونة محبة وعنوان إنساني صاحب “رذاذ بقاع المدينة، و”إلى حين تمطر” و”كأن لا أحد” وهو الذي كان يكتشف نفسه في الشَّارِع الطويل الذي أخذَ ينسَحِبُ من تحتِ قدميه، شهادات قصصية فنّية تلميحية، شحنة مركزة وجرعات مكثفة من المشاعر الرقيقة والقيم الانسانية، لفظاعة ما يعرفه الواقع الإنساني، وهي بمجموع نصوصها النّابضة بالحياة، وبحُرقة الواقع المعيش، وما يَعتريه، تشي بقلم متجدد لمحمد آيت علو، الذواق للإبداع، والمؤمن بقوته لتجاوز اللَّحظة الآن، البارع الماهر في اقتناص اللّحظة و تشكيلها… و الذي تَعِدُ مجموعته هذه، بعطاءٍ كثير على درب الإبداع الجميل السحري الرائق، كما عوَّدَنا دوما. وهو الذي يعتزُّ ويحترمُ قراءهُ كثيراً، ويستفيدُ من طرق مقارباتهم وإبداعهم في تصور المعاني وفي التعبير عنها، ويبقى من حق المتلقي لأي نص أن يبني أفق انتظاره بالطريقة الممكنة والمناسبة له.
إلتقيناه بعد طول غياب محمّلاً بجماليات السرد وسحره وعذوبته، مضمّنا بعطر الطفولة، موشّى بالحب والفرح، مفعما بشذى البراءة والأمل والصفاء، يمتطي صهوة الكتابة في رحلة تجاوز التفاهات والانهيارات والخيبات والإحباط والرتابة والوحشة والوحشية واللامعنى وقبح العالم، وإعادة بناء الذات والحياة، والانتصار لكل ما هو جميل، والخروج لعالم أرحب لمواجهة قسوة العالم، وقد كان لنا معه هذا الحوار لإلقاء الظلال على كتاباته القصصية الناجحة ونشاطه الثقافي عموما.
*فحين تتشظى العلاقات تتحول المسافات انفلاتا، ويصير الاقتراب احتراقا…جاءت نصوص مسافات منفلتة من بؤس الواقع، متداخلة بين ما هو سردي وشعري…كما يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل…حيث ذات السارد تسافر إلى الداخل لاكتناه انفعالاتها وعقدها ممتطيا لغة شاعرية منتقاة بحرفية مخترقة ذاكرتنا. في هذا الحوار سنحاول طرح بعض الأسئلة على كاتبنا محمد آيت علو وهي كالتالي:
حول تجربته الإبداعية عامة والمزاوجة بين السردي والشعري خاصة. وحول عنوان آخر إصداراته. فالثيمات المهيمنة فيها، ثم خصوصية المجموعة القصصية الأخيرة.
– السؤال الأول:
لاحظ أن المجموعة القصصية الأخيرة ” كأن لا أحد” – والمترجمة حاليا ضمن دور النشر الأوروبية وبطبعة أنيقة – بالمقارنة وإبداعاتكم السابقة عرفت طفرة جد مهمة، تكمن في طريقة تعاملكم مع اللغة، التي كانت محبوكة بحرفية نادرة. هل لكم أن تحدثنا عن كيفية تعاملكم مع اللغة؟
– الجواب: – بداية أشكركم على أسئلتكم الجميلة وأتمنى أن تكون الإجابة إثراء للحوار الممتع معكم كمبدع ومثقف مواكب ومتتبع، الواقع أن هذا المؤلف ليس آخر الإصدارات، حيث جاءت من بعده إصدارات شعرية منها”أنفاس تحت كمامة” ومؤلف إلكتروني”أشرعة لمباهج وبركات من نور”، واليوم نصوص مترجمة عن هذا الكتاب الذي ذكرت، فضلا عن نصوص موازية له في إصدار جديد بعنوان” خفيف الظل” وهي كلها تسير وفق المشروع الذي بدأناه “نصوص منفلتة ومسافات” ، وجملة ما فيها أنها نصوص انفلتت من عقال التجنيس المقيد لكل نفس إبداعي أحيانا، ويأخذ مشروعيته ويمتلكها من الدلالة اللغوية نفسها، وها هو الحنين يتجدد إليها كتجربة انمازت بتفردها وخصوصيتها، ثم من منظور المشهد والفضاء الثقافي الذي يتسم بالتعدد ويعج بالتجارب المتفردة، ومعناه فأنت مطالب بالبحث وتقديم تجربة توفر الجديد والمتفرد، وبالتالي التحليق خارج المألوف والرتابة، والإنطلاق إلى كافة العوالم بأجنحة فنية لاحدود لها، والمعول عليه هو الإبداع، وبخصوص سؤالكم عن التعامل مع اللغة أقول إن الحروف تموت إن لم تكن مسكونة بهاجس روعة اللغة، فهي رهان متجدد باستمرار، علاوة على أنها جوهر الكتابة القصصية ولحمتها، عبر لغة راقية تسمو بالذوق، وحبك اللغة في مثل هذه النصوص يستدعي التكثيف والاختزال، فضلا عن الإيحاء الذي يضفي جمالية للكتابة وبأسلوب سهل ممتنع، مع ضرورة توفير متعة القراءة للمتلقي، أما بخصوص المزاوجة بين ما هو شعري وسردي قصصي، فلكل رونقه وجماليته، كمن يحمل ريشة يلوّن بها مساحات الفرح حينًا، أو يغيّرفاللغة الشاعرية كما لايخفى عن نباهتكم تعطينا حياة، أقلّ قبحًا من الحقيقة؛ فقد جاءت المقاطع الشذرية والشعرية لتجمّل الحقيقة، ولتعطي جمالا وبدلالات عميقة مُضمَّنَة في سواد الكتابة، وبدلالات مغيبة في بياضها، لأنها مسافات نصية، يتداخل فيها الشعري والصوفي، ويمتزج فيها الخيالي بالواقعي، وتتعرى فيها الذات من عقدها، وكبريائها لتفصح عن صراعاتها، ومشاعرها وانفعالاتها، إنها مسافات ملغومة حقا بتشكيلها، ولغتها وشرعيتها وواقعيتها وخيالها وصوفيتها، وما يميز هذا العمل هو مدى التلاحم بين ما هو إبداعي فني، شعري وتخييلي، وما هو معيشي واقعي وجودي، فهي تؤشر على حقيقة بادية ولكنها غير عادية، تتمثل في التكثيف و التنوع والغزارة في التجربة، والتعبير عن التفاصيل من على شاشة الإرسال النفسي، مع إشراك المتلقي في عملية الإضافة والتأويل أيضا ضمن بياضات الكتابة والحذف المعتمد.
-السؤال الثاني:
ألا يمكن اعتبار” كأن لا أحد ” امتدادا لإبداعات سابقة ك ” مسافات منفلتة..” ما دامت تشترك في طرح نفس الثيمات ك: الوحدة- الضياع- الغربة- التيه- الفقد- الموت- قليل من الأمل..؟ وما هي حدود الشعري والسردي في المجموعة القصصية الأخيرة خاصة، و في تجربتكم عامة؟
– الجواب: أجل، فمؤلف”كأن لا أحد” هو استمرار وامتداد للتجربة نفسها مع “باب لقلب الريح” كما أسلفنا ضمن مشروع “نصوص منفلتة ومسافات” والتي لقيت استحسانا وإقبالا كبيرا في ساحة التلقي، لكن ليس من باب الاشتراك في التيمات نفسها، بل من منظور آخر يقوم على التباين والحداثة، فكلها نصوص سردية و تمثيلية، هاجسها المشترك هو الدعوة إلى التغيير وإعادة بناء الذات والحياة بتحد وجرأة كبيرين، مع التزام الجدة والطرافة وشرعية الوجود، على أن هذه العودة أملتها بواعث عدة، ومنها الإقبال الكبير والاستحسان للتجربة، فضلا عن الإشادة لثلة من الكتاب والنقاد والأصدقاء، وهو مشروع وجد له موقعا وصدى في سوق التلقي الأدبي عموما، جعلنا نواصل الحفر في التجربة وبثقة كبيرة…
السؤال الثالث: ورد العنوان مثيرا وجذابا “كأن لا أحد”، يحتمل أكثر من جواب…كأن لا أحد يحس بوجودك في عالم منشغل ومشتغل بنفسه ولنفسه. لا أحد يحس بوحدتك. لا أحد يسمعك. لا أحد يشاركك أفراحك أو أحزانك. لا يستطيع التحرر من هذا العمى المسيطر. لا أحد قادر على الوقوف ضد النفاق الاجتماعي المهيمن. لا أحد يتخلص من أنانيته ويتحرر من قبح العالم…و الآن ماذا تريدون أن تقولوا من خلال العنوان؟ وما العلاقة بينه وبين اللوحة التشكيلية التجريدية والنصوص الواردة بين دفتي المجموعة القصصية؟
– الجواب: سؤال وجيه، إن التعالق الموجود بين العنوان وغيره، تعالق نصي يكثف التجربة الإبداعية و يلخصها، فالعنوان عتبة مركزية، وهو يشكل بؤرة ملهمة، ومن تم ضرورة أن يحضى بانشغال كبير، على أن يكون مشهيا ومثيرا وجذابا، فقد شغل بالي كثيرا، فالعنوان كما لا يخفى على نباهتكم إن لم يحط بالكتاب إحاطة سوار بمعصم، وإن لم يبد مرتاحا على غلافه كاطمئنان وليد في حضن أمه، فإن وهج الكتاب سينقص، هذا إن لم يضلل القارئ العجول، وفي غمرة حيرة تطل وتختفي وأمام عشرات العناوين وبين عناوين شتى تشع ثم تنطفيء، استقر الأمر على هذا العنوان المثير” كأن لا أحد”، والذي يثيرٌ حبا وشجنا وريبة وألما وغبنا وتشويقا وشكا ودلالات عميقة لاحصر لها، مما يجعل مقارباته عديدة ومن تم درجات إبداعيته بامتياز، على الرغم من الدلالة الواضحة والمتاحة للجميع على مختلف مستوياتهم، والتي لن تلتبس على أي أحد، فهذا العنوان يحيلك إلى التيقن بأن الإنسان وحيد من البداية حتى النهاية فما بعدها، فهو وحيدٌ من المهد حتى اللحد، الدنيا تبدلت ومعها أهلها، وفي ظل الخداع والمكر والخيانة والغدر والأنانية والإنتهازية، والتبدل والقلق والتشتت والضياع، وتوالي الخيبات وغياب الوفاء، ولن تعتمد على أحد، “لقد كان قومي مثل رمال الشواطئ، وأنا الآن أناديهم فلا تجيبني سوى الرياح”، فضلا عن ذلك فكلنا نشتهي سفراً ورحيلا نعود بعده لا نعرف أحدا، وعالمنا إذن هو ما فلت، وما يفلت، وما سيفلت منا، ماذا يريد الإنسان من هذا الوجود إذن…؟ يقينا وجوده، فعلى الرغم مما قد يصطنعه المرء في محيطه وحياته من أواصر وقرابات باعتباره كائنا إجتماعيا بطبعه، ويصيريشعرُ بالاحتماء والانتصار المزيَّف، لكن سرعان ما يجد نفسه في وحدة قاتلة، خصوصا عند أحلك الأحوال، يغيبون بل يندرون، ، يبقى عزاءه الوحيد رحمة الله التي وسعت كلَّ شيء…”فنسأل الله ألايكلنا إلى أحد، ولايحوجنا إلى أحد، وأن يغنينا عن أي أحد، فهو وحده نعم المستند والمعتمد، الفرد الصمد، الواحد الأحد.
*وفي السياق ذاته شق آخر من السؤال: ما العلاقة بينه وبين اللوحة التشكيلية التجريدية والنصوص الواردة بين دفتي المجموعة القصصية؟
– أما بخصوص لوحة الغلاف فهي جد مُعْتَبَرة ومُعَبّرة في الآن نفسه بل وتتناغم وتنسجم وتأتي وفق قصة السيناريو أو ضمن السكريبت ، وللإشارة فاللوحة هي للفنان التشكيلي خالد عروب، وسواء تعلق الأمر بالتشكيل أو الألوان فهي ذات دلالات مرتبطة بطبيعة التجربة والمنفتحة على فنون موازية، مثل اللقطة السينمائية أو السكريبت و السيناريو”نص يحدد البناء العام للفيلم أو المسرحية…”..التكثيف والاختزال والانزياح، واقتناص الدهشة في غابات الحياة بجمالها وأسرارها وأسئلتها وغموضها، والمزج بين ما هو خيالي وواقعي، والمنطق والحلم. وهي نصوص تتميز ببعدها الإنساني، وعمق معانيها ورمزيتها ودلالاتها في الأغلب الأعم، كما أنَّها تمتحُّ من صور واقعية لترتقي بالمتلقي إلى رحابة القيم الانسانية، وبخاصة لما يدرك الواحدُ منَّا حقيقة وحدته الملازمة له في الأول والأخير، فيضطرُّ إلى أن ينعش ويطهر بالحب ساعات لقائه ووداعه لمن حوله.
– السؤال الرابع: – هل يمكن اعتبار المؤلف صرخة في وجه العمى المنتشر، الذي يأخذ مظاهر عدة منها: الوحدة والتيه وانعدام الثقة بين الناس واستفحال الأنانية…فجل الشخصيات الواردة ترتد إلى الذات، إلى الداخل. أليس هذا نوعا من الانتكاسة بدل التمرد على هذا الوضع الكسيح؟ لماذا نجد مساحة الأمل أقل من مساحة قبح العالم؟ وهل الإبداع هو الخلاص من هذه الآفات المبثوثة بين ثنايا النصوص؟
– الجواب: ذكرني هذا بصديق كاتب حينما تناول الكتاب لأول مرة وتصفح بعض صفحاته، همس لي قائلا: ما هذه السحابة الداكنة؟ ابتسمت له، وقلت: أترى غيرها؟ فلعلها تمطر، وأنت على حق وبمثل براعة استهلالكم، فالإبداع لا يولد إلا من رحم المعاناة، فبقدر ما يكون الألم، بقدر ما يصبح الوعي، إن ما يجعل الإنسان وهو يحمل صخرته إلى أعلى الجبل لتتدحرج، فيعيد الكرة مرات ومرات، هو قدرته على أن يحيا هذه الحياة بالرغم كل ما يعرفه عنها وعن ماله فيها، الحياة كلها مسافات بحلوها ومرها، العسر مع اليسر، ولن يغلب عسر يسرين، الوحدة والصبر والأمل وزرع الفرح في قلوب الناس ولو من خلال”كوة للفرح”، فالحياة لا تدرك إلا بالإبداع، والإبداع عموما هو إدراك ورؤية للواقع من خلال ارتسامات الفكر، وهو الحافز لحياة ممكنة ومرضية وتلك الفسحة لنشدان الجميل والمشرق الكامن في الذات وهي تكابد اليومي المعيش وتحلم، وليس هروبا من الحياة، بل العيش في عمقها ومحاولة إنقاذ الإنسان من حصار ذاته والساعي نحو الخروج لعالم أرحب، وهو أيضا حين نحتسي قهوتنا بمرارة الألم والوحدة، فضلا على أنه الملاذ والتجاوز والخلاص، تجاوز التفاهات والانهيارات والخيبات والإحباط والرتابة والوحشة والوحشية واللامعنى وقبح العالم ، إنه صرخاتنا ونبضنا ووجودنا على أننا لازلنا نتشبث ونصارع وننتصر لكل ما هو جميل، ومواجهة قسوة العالم، ونشرالفرح الإنساني، ثم لإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية، وكل ذلك من أجل إنسانية الإنسان. انتصار لما هو إنساني.
– بعد هذه الإصدارات ما هي مشاريعك المستقبلية؟
– العمل كثير، والعمر قصير والوقت بخيل، وطموحات الكاتب لا حدود لها، حاليا أعمل جاهدًا وبعد تفكير ملي، أنا الآن بصدد إعداد سيرة ذاتية على اعتبار أنها تحتل مكانة مرموقة في تاريخ آداب كثيرة، حيث تقدم دليلا حيا على أن هذا الجنس الأدبي يلامس عمق الإنسان، ويجسد تجربته الذاتية في الحياة، وتعبير عن الإنسانية بصورة عامة وعن وجودهم ومصيرهم، من خلال إمكانية البوح والاعتراف عبر هذا الوسيط. وكحصيلة تجربة حياتيّة تجسّد مسار الذّات في جميع أبعادها، كما أن هناك إصدارات جديدة في الأفق مع بعض الترجمات في السياق ذاته.
– كلمة أخيرة ؟
– شكرا لشخصك الكريم على هذه الأسئلة القيمة، ففي كثير من الأحيان كل ما نريده هو أن نُسمع فقط، فكل الامتنان على هذه المساحة لنقل أفكارنا وتجربتنا الإبداعية ومشروعنا في الكتابة، الحقيقة أنا ممتن لك، فكم شرفتني كلماتك وأسئلتك في هذا اللقاء الماتع والشائق، حيث فتحت لي المجال للتحدث بإسهاب عن هذه التجربة الإبداعية وعن قضايا هامة جدا ثقافية وأدبية.
– في الختام لايسعنا إلا أن نشكر الكاتب محمد آيت علو على سعة صدره . واسمحوا لي أن أشكركم على هذه المحادثة الشيقة للغاية، ونتمنى له طول العمر والمزيد من العطاء والابداع مع أجزل آيات التقدير والاحترام .
*أجرى الحوار المبدع عبد الرحيم بيضون


شارك بتعليقك

شاهد أيضا
اشتراك في القائمة البريدية
   

إشترك بالقائمة البريدية لكواليس اليوم لتتوصل بكل الجديد عبر البريد الإلكتروني